Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 47-48)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما بكتهم على فعلهم وقولهم وصرح بلعنهم ، خوَّفهم إظهار ذلك في الصور المحسوسة فقال مقبلاً عليهم إقبال الغضب : { يا أيها الذين } منادياً لهم من محل البعد { أوتوا الكتاب } ولم يسند الإيتاء إليه تحقيراً لهم ، ولم يكتف بنصيب منه لأنه لا يكفي في العلم بالمصادقة إلا الجميع { آمنوا بما نزلنا } أي تدريجاً كما نزلنا التوراة كذلك ، على ما لنا من العظمة التي ظهرت في إعجازه وإخباره بالمغيبات ودقائق العلوم مما عندكم وغيره على رشاقته وإيجازه ؛ وأعلم بعنادهم وحسدهم بقوله : { مصدقاً لما معكم } من حيث أنهم له مستحضرون ، وبه في حد ذاته مُقِرّون . ولما أمرهم وقطع حجتهم ، حذرهم فقال - مخففاً عنهم بالإشارة بحرف الجر إلى أنه متى وقع منهم إيمان في زمن مما قبل الطمس أخره عنهم - : { من قبل أن نطمس } أي نمحو { وجوهاً } فإن الطمس في اللغة : المحو ؛ وهو يصدق بتغيير بعض الكيفيات ، ثم سبب عن ذلك قوله : { فنردها } فالتقدير : من قبل أن نمحو أثر وجوه بأن نردها { على أدبارها } أي بأن نجعل ما إلى جهة القبل من الرأس إلى جهة الدبر ، وما إلى الدبر النقل من حال إلى ما دونها من ضدها بجعلها على حال القفا ، ليس فيها معلم من فم ولا غيره ، ليكون المعنى بالطمس مسح ما في الوجه من المعاني ؛ قال ابن هشام : نطمس : نمسحها فنسويها ، فلا يرى فيها عين ولا أنف ولا فم ولا شيء مما يرى في الوجه ، وكذلك { فطمسنا أعينهم } [ القمر : 37 ] المطموس العين : الذي ليس بين جفنيه شق ، ويقال : طمست الكتاب والأثر فلا يرى منه شيء . ويكون الوجه في هذا التقدير على حقيقته ؛ ثم خوفهم نوعاً آخر من الطمس فقال عاطفاً على ( نردها ) : { أو نلعنهم } أي نبعدهم جداً عن صورة البشر أن نقلب وجوههم أو جميع ذواتهم على صورة القردة { كما لعنا أصحاب السبت } إذ قلنا لهم { كونوا قردة خاسئين } [ البقرة : 65 ] ويكون الوجه في هذا التقدير الأخير عبارة عن الجملة ، فهو إذن مما استعمل في حقيقته ومجازه ، ويجوز أن يكون واحد الوجهاء ، فيكون عود الضمير إليه استخداماً ، ويكون المراد بالرد على الأدبار جعلهم أدنياء صغرة من الأسافل - والله سبحانه وتعالى أعلم . ولما كان ذلك أمراً غريباً ومقدوراً عجيباً ، وكان التقدير : فقد كان أمر الله فيهم بذلك - كما علمتم - نافذاً ؛ أتبعه الإعلام بأن قدرته شاملة ، وأن وجوه مقدوراته لا تنحصر , فقال عاطفاً على ما قدرته : { وكان أمر الله } أي حكمه وقضاؤه ومراده في كل شيء شاء منهم ومن غيره بذلك وبغيره ، لأن له العظمة التي لا حد لها والكبرياء التي تعيي الأوصاف دونها { مفعولاً * } أي كائناً حتماً ، لا تخلف له أصلاً ، فلا بد من وقوع أحد الأمرين إن لم يؤمنوا ، وقد آمن بعضهم فلم يصح أنهم لم يؤمنوا ، لأنه قد وقع منهم إيمان . ولما كانوا مع ارتكابهم العظائم يقولون : سيغفر لنا ، وكان امتثالهم لتحريف أحبارهم ورهبانهم شركاً بالله - كما قال سبحانه وتعالى { اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله } [ التوبة : 31 ] قال - معللاً لتحقيق وعيدهم ، معلماً أن ما أشير إليه من تحريفهم أداهم إلى الشرك - : { إن الله } أي الجامع لصفات العظمة { لا يغفر أن يشرك به } أي على سبيل التجديد المستمر إلى الموت سواء كان المشرك من أهل الكتاب أم لا ، وزاد ذلك حسناً انه في سياق { واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً } [ النساء : 36 ] . ولما أخبر بعدله أخبر بفضله فقال : { ويغفر ما دون ذلك } الأمر الكبير العظيم من كل معصيته سواء كانت صغيرة أو كبيرة ، سواء تاب فاعلها أو لا ، ورهب بقوله - إعلاماً بأنه مختار ، لا يجب عليه شيء - : { لمن يشاء } . ولما كان التقدير : فإن من أشرك بالله فقد ضل ضلالاً بعيداً ، عطف عليه قوله : { ومن يشرك } أي يوجد منه شرك في الحال أو المآل ، وأما الماضي فجبته التوبة { بالله } أي الذي كل شيء دونه { فقد افترى } أي تعمد كذباً { إثماً عظيماً * } أي ظاهراً في نفسه من جهة عظمه أنه قد ملأ أقطار نفسه وقلبه وروحه وبدنه مظهراً للغير أنه إثم ، فهو في نفسه منادٍ بأنه باطل مصر ، فلم يدع للصلح موضعاً ، فلم تقتض الحكمة العفو عنه ، لأنه قادح في الملك ، وإنما طوى مقدمة الضلال وذكر مقدمة الافتراء - لكون السياق لأهل الكتاب الذين ضلالهم على علم منهم وتعمد وعناد ، بخلاف ما يأتي عن العرب ، وفي التعبير بالمضارع استكفاف مع استعطاف واستجلاب في استرهاب .