Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 40, Ayat: 40-44)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما حرك الهمم بهذا الوعظ إلى الإعراض عن دار الأنكاد والأمراض ، والإقبال على دار الجلال والجمال بخدمة ذي العز والكمال ، قال في جواب من سأل عن كيفية ذلك ما حاصله أنه بالإقبال على محاسن الأعمال ، وترك السيء من الخلال ، واصلاً بذلك على طريق البيان للبيان ، ذاكراً عاقبة كل ليثبط عما يتلف ، وينشط لما يزلف ، مشيراً إلى جانب الرحمة أغلب ، مقدماً لما هم عليه من السوء محذراً منه ليرجعوا { من عمل سيئة } أي ما يسوء من أي صنف كان : الذكور والإناث والمؤمنين والكافرين { فلا يجزى } أي من الملك الذي لا ملك سواه { إلا مثلها } عدلاً لا يزاد عليها مقدار ذرة ولا أصغر منها ويدخل النار إن لم يكن له ما يكفرها ، فهذا هو الملك الذي ينبغي الإقبال على خدمته لكونه الحكم العدل القادر على الجزاء والمساواة في الجزاء ، فالكافر لما كان على عزم إدامه الكفر كان عذابه دائماً , والفاسق لما كان على نية التوبة لاعتقاده أنه في معصية وشر كان عذابه منقطعاً ، والآية على عمومها ، وما خرج منها بدليل كان مخصوصاً فيخرج عليها جميع باب الجنايات وغيره ، ومن قال : إنها في شيء معين ، لزمه أن تكون مجملة ، لأن ذاك المعين غير مذكور ، والتخصيص أولى من الإجمال كما قال أهل الأصول . ولما بين العدل في العقاب ، بين الفضل في الثواب ، تنبيهاً على أن الرحمة سبقت الغضب فقال : { ومن عمل صالحاً } أي ولو قل . ولما كان من يعهدون من الملوك إنما يستعملون الأقوياء لاحتياجهم ، بين أنه على غير ذلك لأنه لا حاجة به أصلاً فقال : { من ذكر أو أنثى } ولما كان العمل لا يصح بدون الإيمان قال مبيناً شرطه : { وهو } أي عمل والحال أنه { مؤمن } ولما كان في مقام الترغيب في عدله وجوده وفضله ، جعل الجزاء مسبباً عن الأعمال فقال : { فأولئك } أي العالو الهمة والمقدار { يدخلون الجنة } أي بأمر من له الأمر كله بعد أن ضاعف لهم أعمالهم فضلاً ، والآية من الاحتباك : ذكر المساواة أولاً عدلاً يدل على المضاعفة ثانياً فضلاً ، وذكر إدخال الجنة ثانياً يدل على إدخال النار أولاً ، وسره أنه ذكر فضله في كل من الشقين { يرزقون فيها } أي من غير احتياج إلى تحول أصلاً ولا إلى أسباب ، ولعل ذلك من أسرار البناء للمفعول { بغير حساب * } لخروج ما فيها بكثرته عن الحصر ، فإن أدنى أهلها منزلة لو أضاف كل أهل الأرض لكفاهم من غير أن ينقص من ملكه شيء ، وهذا من باب الفضل ، وفضل الله لا حد له ، ورحمته غلبت غضبه ، وأما جزاء السيئة فمن باب العدل ، فلذلك وقع الحساب فيها لئلا يقع الظلم ، قال الأصبهاني : فإذا عارضنا عمومات الوعيد بعمومات الوعد ترجح الوعد لسبق الرحمة الغضب ، فأنهدمت قواعد المعتزلة . ولما بلغ النهاية في نصحهم ، وختم بإعلامهم بأن الناس قسمان : هالك وناج ، وكان حاصل إرادتهم لأن يكون على ما هم عليه الهلاك بالنار ، قال مبكتاً لهم بسوء مكافأتهم منادياً لهم مكرراً للنداء لزيادة التنبيه والإيقاظ من الغفلة . والتذكير بأنهم قومه واعضاده ، وعاطفاً على ندائه السابق لأنه غير مفصل له ولا داخل في حكمه : { ويا قوم ما } أي أيّ شيء من الحظوظ والمصالح { لي } في أني { أدعوكم إلى النجاة } والجنة بالإيمان شفقة عليكم ورحمة لكم واعترافاً بحقكم { و } مالكم من ذلك في كونكم { تدعونني إلى النار * } والهلاك بالكفران ، فالآية من الاحتباك : ذكر النجاة الملازمة للايمان أولاً دليلاً على حذف الجنة أولاً ، ومراده هزهم وإثارة عزائمهم إلى الحياة منه بتذكيرهم أن ما يفعلونه معه ليس من شيم أهل المروءة يجازونه على إحسانه إليهم بالإساءة . ولما أخبر بقلة إنصافهم إجمالاً ، بينه بقوله : { تدعونني } أي توقعون دعائي إلى معبوداتكم { لأكفر } أي لأجل أن أكفر { بالله } أي أستر ما يجب إظهاره بسبب الذي أناله لأن له كل شيء وله مجامع القهر والعز والعظمة والكبر { وأشرك } أي أوقع الشرك { به } أي أجعل له شريكاً . ولما كان كل ما عداه سبحانه ليس له من ذاته إلا العدم ، أشار إلى حقارته بالتعبير بأداة ما لا يعقل فقال : { ما ليس لي به علم } أي نوع من العلم بصلاحيته لشيء من الشركة ، فهو دعاء إلى الكذب في شيء لا يحل الإقدام عليه إلا بالدليل القطعي الذي لا يحتمل نوعاً من الشرك ، وإذا لم يكن به علم لم يكن له عزة ولا مغفرة ، فلم يكن له وجود لأن الملك لازم الإلهية وهو أشهر الأشياء ، فما ادعى له أشهر الأشياء ، فكان بحيث لا يعرف بوجه من الوجوه ، كان عدماً محضاً . ولما بين أنهم دعوه إلى ما هو عدم فضلاً عن أن يكون له نفع أو ضر في جملة فعليه إشارة إلى بطلان دعوتهم وعدم ثبوتها ، بين لهم أنه دعاهم إلا إلى ما له الكمال كله ، ولا نفع ولا ضر إلا بيده ، فقال مشيراً بالجملة الاسمية إلى ثبوت دعوته وقوتها : { وأنا ادعوكم } أي أوقع دعاءكم الآن وقبله وبعده { إلى العزيز } أي البالغ العزة الذي يغلب كل شيء ولا يغلبه شيء . ولما وصفه بهذا الوصف ترهيباً ، صح قطعاً وصفه ترغيباً بقوله : { الغفار * } أي الذي يتكرر له دائماً محو الذنب عيناً وأثراً ولا يقدر على ذلك غير من هو بصفة العزة ، ومن صح وصفه بهذين الوصفين فهو الذي لا يجهل ما عليه ، من صفات الكمال أحد ، فالآية من الاحتباك : ذكراً أولاً عدم العلم دليلاً على العلم ثانياً ، وثانياً العزة والمغفرة دليلاً على حذفهما أولاً . ولما كان انتفاء العلم بالشيء من أهل العلم انتفاء ذلك الشيء في أصول الدين ، كان ما دعوه إليه باطلاً ، وكان ما دعاهم إليه هو الحق ، فلذلك أنتج قطعاً قوله : { لا جرم } وهي وإن كانت بمعنى : لا ظن ولا اضطراب أصلاً - كما مضى في سورة هود عليه السلام فيها معنى العلة ، أي فلأجل ذلك لا شك في { أنما } أي الذي { تدعونني إليه } من هذه الأنداد { ليس له دعوة } بوجه من الوجوه ، فإنه لا يقوم عليها دليل بل ولا شبهة موهمة { في الدنيا } التي هي محل الأسباب ، الظاهرة لأن شيئا منه ليس له واحد من الوصفين { ولا في الآخرة } لأن ما لا تعلم إلهيته كذلك يكون { وإن } أي ولا اضطراب في أن { مردنا } أي ردنا العظيم بالموت وموضع ردنا ووقته منتهٍ { إلى الله } أي الذي له الإحاطة بصفات الكمال لما اقتضته عزته ، فيجازي كل أحد بما يستحقه { وأنَّ } أي ولا شك في أن { المسرفين } أي المجاوزين للحدود العريقين في هذا الوصف { هم } أي خاصة لأجل حكم الله بذلك عليهم { أصحاب النار * } أي الذين يخلدون فيها لا يفارقونها كما يقتضيه معنى الصحبة لأن إسرافهم اقتضى إسراف ملازمتهم للنار التي طبعها الإسراف ، وقد علم أن ربها لا يجزي بالسيئة إلا مثلها . ولما تقرر أنه لا أمر لغير الله وأنه لا بد من المعاد ، تسبب عنه بقوله : { فستذكرون } أي قطعاً بوعد لا خلف فيه مع القرب { ما أقول لكم } حين لا ينفعكم الذكر في يوم الجمع الأعظم والزحام الذي يكون فيه القدم على القدم إذا رأيتم الأهوال والنكال والزلزال إن قبلتم نصحي وإن لم تقبلوه . ولما ذكر خوفهم الذي لا يحميهم منه شيء ذكر خوفه الذي هو معتمد فيه على الله ليحيمه منه فقال عاطفاً على " ستذكرون " غير مراعى فيها معنى السين : { وأفوض } أي أنا الآن بسبب أنه لا دعوة لغير الله { أمري } فيما تمكرونه بي { إلى الله } أي الذي أحاط بكل شيء علماً وقدرة فهو يحميني منكم : إن شاء ، قال صاحب المنازل : التفويض ألطف إشارة وأوسع من التوكل بعد وقوع السبب ، والتفويض قبل وقوعه وبعده ، وهو عين الاستسلام ، والتوكل شعبة منه ، وهو على ثلاث درجات : الأولى أن تعلم أن العبد لا يملك قبل علمه استطاعة ، فلا يأمن من مكر ، ولا ييأس من معونة ، ولا يعول على نية ، والثانية معاينة الاضطرار فلا ترى عملاً منجياً ولا ذنباً مهلكاً ولا سبباً حاملاً ، والثالثة شهود انفراد الحق بملك الحركة والسكون والقبض والبسط والتفريق والجمع . ولما علق تفويضه بالاسم العلم الجامع المقتضي للإحاطة ، على ذلك بياناً لمراده بقوله مؤكداً لأن عملهم في مكرهم به عمل من يظن أن سبحانه لا يبصرهم ولا ينصره { إن الله } وكرر الاسم الأعظم بياناً لمراده بأنه { بصير } أي بالغ البصر { بالعباد * } ظاهراً وباطناً ، فيعلم من يستحق النصرة لاتصافه بأوصاف الكمال ويعلم من يمكر فيرد مكره عليه بما له من الإحاطة .