Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 71-77)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كانوا في الدنيا قد جمعت أيديهم إلى أذقانهم بجوامع السطوة ، ثم وصلت بسلاسل القهر يساقون بها عن مقام الظفر بالنجاح إلى أهويات الكفر بالجدال بالباطل ومهامه الضلال المبين كما قال تعالى { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } [ يس : 8 ] الآية ، فجعل باطن تلك السلاسل الدنيوية والأغلال ظاهراً في ذلك المجمع قال : { إذ } أي حين تكون { الأغلال } جمع غل ، قال في ديوان الأدب ، هو الذي يعذب به الإنسان . وقال القزاز : الغل من الحديد معروف ، ويكون من القد ، وقال في النهاية : هو الحديدة التي تجمع يد الأسير إلى عنقه ، ويقال لها جامعة أيضاً - انتهى . وأصله الإدخال ، يدخل فيه العنق واليد فتجمعان به ، وذلك معنى قول الصغاني في مجمع البحرين : في رقبته غل من حديد ، وقد غلت يده إلى عنقه { في أعناقهم } أي جامعة لأيديهم إلى تراقيهم ، وعبر بإذ ومعناها المضي مع سوف ومعناها الاستقبال ، لأن التعبير بالمضي إنما هو إشارة إلى تحقق الأمر مع كونه مستقبلاً { والسلاسل } أي في أعناقهم أيضاً يقيدهم ذلك عن كل تصرف لكونهم لم يتقيدوا بكتاب ولا رسول ، والسلسلة من : تسلسل الشيء : اضطرب ، قال الراغب : كأنه تصور منه تسلسل متردد ، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه ، وما سلسل متردد في مقره حتى صفا ، حال كونهم { يسحبون * } أي بها ، والسحب : الجر بعنف { في الحميم * } أي الماء الحار الحاضر الذي يكسب الوجوه سواداً ، والأعراض عاراً ، والأرواح عذاباً والأجسام ناراً ، والقلوب هماً واللحوم ذوباناً واعتصاراً ، وذلك عوض ترفيعهم لأنفسهم عن سحبها بأسباب الأدلة الواضحات في كلف العبادات ومرارات المجاهدات وحرارات المنازلات . ولما أخبر عن تعذيبهم بالماء الحار الذي من شأنه أن يضيق الأنفاس ، ويضعف القوى ، ويخفف القلوب ، أخبر بما هو فوق ذلك فقال : { ثم في النار } أي عذابها خاصة { يسجرون * } أي يلقون فيها وتوقد بهم مكردسين مركوبين كما يسجر التنور بالحطب - أي يملأ - وتهيج ناره ، وكما يسجر - أي يصب - الماء في الحلق ، فيملؤونها فتحمى بهم ويشتد اضطرامها لكونهم كانوا في الدنيا وقود المعاصي ، والفتن بهم يشب وقودها ويقوى عودها ، ويثبت عمودها ، لأنهم لم يلقوا أنفسهم في نيران الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، ومخالفات الشهوات في أبواب الأوامر والنواهي ، التي هي في الظاهر نيران ، وفي الحقيقة جنان . ولما كان المدعو إنما يدخر لأوقات الشدائد ، قال موبخاً لهم مندماً مقبحاً لقاصر نظرهم لأنفسهم بانياً للمفعول لأن المنكىء هذا القول مطلقاً لا لكونه من قائل معين : { ثم قيل لهم } أي بعد أن طال عذابهم ، وبلغ منهم كل مبلغ ، ولم يجدوا ناصراً يخلصهم ولا شافعاً يخصصهم : { أين } والتعبير عنهم بأداة ما لا يعقل في أحكم مواضعه في قوله : { ما كنتم } أي دائماً { تشركون * } أي بدعائكم لهم في مهماتكم دعاء عبادة مع تجديده في كل وقت ؛ ثم بين سفولهم بقوله لافتاً القول عن مظهر العظمة إلى أعظم منه فقال : { من دون الله } أي المحيط بجميع العز وكل العظمة ، لتطلبوا منهم تخليصكم مما أنتم فيه أو تخفيفه : { قالوا } أي مسترسلين مع الفطرة وهي الفطرة الأولى على الصدق : { ضلوا عنا } فلا نراهم كما ضللنا نحن في الدنيا عما ينفعنا . ولما رأوا أن صدقهم قد أوجب اعترافهم بالشرك ، دعتهم رداءة المكر ورذالة الطباع إلى الكذب ، فاسترسلوا معها فبادروا أن أظهروا الغلظ فقالوا ملبسين على من يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ظانين أن ذلك ينفعهم كما كان ينفعهم عند المؤمنين في دار الدنيا : { بل لم نكن ندعو } أي لم يكن ذلك في طباعنا . ولما كان مرادهم نفي دعائهم أصلاً ورأساً في لحظة فما فوقها ، لا النفي المقيد بالاستغراق ، فإنه لا ينفي ما دونه ، أثبتوا الجار فقالوا : { من قبل } أي قبل هذه الإعادة { شيئاً } لنكون قد أشركنا به ، فلا يقدرهم الله إلا على ما يزيد في ضرهم ويضاعف ندمهم ويوجب لعن أنفسهم ولعن بعضهم بعضاً بحيث لا يزالون في ندم كما كان حالهم في الدنيا { انظر كيف كذبوا على أنفسهم وضل عنهم ما كانوا يفترون } [ الأنعام : 24 ] فالآية من الاحتباك : ذكر الإشراك أولاً دليلاً على نفيهم له ثانياً ، والدعاء ثانياً دليلاً على تقديره أولاً . ولما كان في غاية الإعجاب من ضلالهم ، كان كأنه قيل : هل يضل أحد من الخلق ضلال هؤلاء ، فأجيب بقوله : { كذلك } أي نعم مثل هذا الضلال البعيد عن الصواب { يضل الله } أي المحيط علماً وقدرة ، عن القصد النافع من حجة وغيرها { الكافرين * } أي الذين ستروا مرائي بصائرهم لئلا يتجلى فيها ثم صار لهم ذلك ديدناً . ولما تم جواب السؤال عن التعجب من هذا الضلال ، رجع إلى خطاب الضلال فقال معظماً لما ذكر من جزائهم بأداة البعد وميم الجمع نصاً على تقريع كل منهم : { ذلكم } أي الجزاء العظيم المراتب ، الصعب المراكب , الضخم المواكب { بما كنتم } أي دائماً { تفرحون } أي تبالغون في السرور وتستغرقون فيه وتضعفون عن حمله للإعراض عن العواقب . ولما كانت الأرض سجناً ، فهي في الحقيقة دار الأحزان ، حسن قوله : { في الأرض } أي ففعلتم فيها ضد ما وضعت له ، وزاد ذلك حسناً قوله : { بغير الحق } فأشعر أن السرور لا ينبغي إلا إذا كان مع كمال هذه الحقيقة ، وهي الثبات دائماً للمفروح به ، وذلك لا يكون إلا في الجنة { وبما } أي وبسبب ما { كنتم تمرحون * } أي تبالغون في الفرح مع الأشر والبطر والنشاط الموجب الاختيال والتبختر والخفة بعدم احتمال الفرح . ولما كان السياق لذم الجدال ، وكان الجدال إنما يكون عن الكبر ، وكان الفرح غير ملازم للكبر ، لم يسبب دخول النار عنه ، بل جعله كالنتيجة لجميع ما مضى فقال : { ادخلوا } أي أيها المكذبون . ولما كان في النار أنواع من العذاب ، دل على تعذيبهم بكل نوع بذكر الأبواب جزاء على ما كانوا يخوضون بجدالهم في كل نوع من أنواع الأباطيل فقال : { أبواب جهنم } أي الدركة التي تلقي صاحبها بتكبر وعبوسة وتجهم { خالدين فيها } أي لازمين لما شرعتم فيه بالدخول من الإقامة لزوماً لا براح منها أصلاً . ولما كانت نهاية في البشاعة والخزي والسوء ، وكان دخولهم فيها مقروناً بخلودهم سبباً لنحو أن يقال : فهي مثواكم ، تسبب عنه قوله : { فبئس مثوى } دون أن يقال : مدخل { المتكبرين * } أي موضع إقامتهم المحكوم بلزومهم إياه لكونهم تعاطوا ما ليس لهم ، ولا ينبغي أن يكون إلا الله يقول الله تعالى : " الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعنيهما قصمته " ولم يؤكد جملة { بئس } هنا لأن مقاولتهم هذه بنيت على تجدد علمهم في الآخرة بأحوال النار ، وأحوال ما سببها ، والتأكيد يكون للمنكر ومن في عداده ، وحال كل منهما مناف للعلم ، وزاد ذلك حسناً أن أصل الكلام مع الأعلم للسر الذي تقدم - صلى الله عليه وسلم فبعد جداً من التأكيد . ولما كان هذا في الجزاء أعظم الشماتة بهم ، فكان فيهم أعظم التسلية لمن جادلوه وتكبروا عليه ، سبب عنه قوله : { فاصبر } أي ارتقاباً لهذه النصرة ، ثم علل بقوله مؤكداً لأجل تكذيبهم بالوعد : { إن وعد الله } أي الجامع لصفات الكمال { حق } أي في نصرتك في الدارين فلا بد من وقوعه ، وفيه أعظم تأسية لك ولذلك سبب عنه مع صرف القول إلى ما يأتي الاعتراض إشارة إلى أنه لا يسأل عما يفعل ، قوله تعالى : { فإما نرينك } وأكده بـ " ما " والنون ومظهر العظمة لأنكارهم لنصرته عليهم ولبعثهم { بعض الذي نعدهم } أي بما لنا من العظمة مما يسرك فيهم من عذاب أو متاب قبل وفاتك ، فذاك إلينا وهو علينا هين . ولما ذكر فعل الشرط وحذف جوابه للعلم به ، عطف عليه قوله : { أو نتوفينَّك } أي قبل أن ترى ذلك فيهم وأجاب هذا المعطوف بقوله : { فإلينا } أي بما لنا من العظمة { يرجعون * } أي معي في الدنيا فتريهم بعد وفاتك من نصر أصحابك عليهم بما تسرك به في برزخك فإنه لا بقاء لجولة باطلهم ، وحساً في القيامة فنريك فيهم فوق ما تؤمل من النصرة المتضمنة لتصديقك وتكذيبهم ، وإكرامك وإهانتهم ، والآية من الاحتباك : ذكر الوفاة ثانياً دليلاً على حذفها أولاً ، والرؤية أولاً دليلاً على حذفها ثانياً .