Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 47, Ayat: 37-38)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان الإنسان ، لما جبل عليه من النقصان ، قد يهلك جميع أمواله لهواً ولعباً بالمقامرة ونحوها ، ولا ينهاه ذلك بل لا يزيده إلا إقبالاً رجاء أن يظفر ، ولو سئل جميع ماله في الطاعة لبخل ، قال تعالى ذاكراً لهم ذلك تنبيهاً عليه وإيماء إلى حلمه تعالى عنهم وتحببه إليه معللاً ما قبله : { أن يسئلكموها } أي الأموال كلها ، ولما كانت الأموال قد تطلق على معظمها ، حقق المعنى بقوله : { فيحفكم } أي يبالغ في سؤالكم ويبلغ فيه الغاية حتى يستأصلها فيجهدكم بذلك { تبخلوا } فلا تعطوا شيئاً { ويخرج } أي الله أو المصدر المفهوم من " تبخلوا " بذلك السؤال { أضغانكم * } أي ميلكم عنه حتى يكون آخر ذلك عداوة وحقداً ، وقد دل إضافة الأضغان إلى ضميرهم أن كل إنسان ينطوي بما له من النقصان ، على ما جبل عليه من الإضغان ، إلا من عصم الرحيم الرحمن ، قال الرازي : وهذا دليل على أن العبد إذا منع في مواسم الخيرات سوى الزكاة لم يخرج من البخل ، فحد البخل منع ما يرتضيه الشرع والمروءة فلا بد من مراعاة المروءة ورفع قبح الأحدوثة ، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص ، وقدم المادة مهما ظهر له أن فائدة البذل أعظم من فائدة الإمساك ثم يشق عليه البذل فهو بخيل محب للمال ، والمال لا ينبغي أن يحب لذاته بل لفائدته ، وحفظ المروءة أعظم وأفضل وأقوى من التنعم بالأكل الكثير مثلاً . ولما أخبر ببخلهم لو سئلوا جميع أموالهم أو أكثرها ، دل عليه بمن يبخل منهم عما سأله منهم وهو جزء يسير جداً من أموالهم ، فقال منبهاً لهم على حسن تدبيره لهم وعفوه عنهم عند من جعل " ها " للتنبيه ، ومن جعل الهاء بدلاً من همزة استفهام جعلها للتوبيخ والتقريع ، لأن من حق من دعاه مولاه أن يبادر للإجابة مسروراً فضلاً أن يبخل ، وفي هاء التنبيه ولا سيما عند من يرى تكررها تأكيد لأجل استبعادهم أن أحداً يبخل عما يأمر الله به سبحانه : { هأنتم } وحقر أمرهم أو أحضره في الذهن وصوره بقوله : { هؤلاء تدعون } أي إلى ربكم الذي لا يريد بدعائكم إلا نفعكم وأما هو فلا يلحقه نفع ولا ضر { لتنفقوا } شيئاً يسيراً من الزكاة وهي ربع العشر ونحوه ، ومن نفقة الغزو وقد يحصل من الغنيمة أضعافها وقد يحصل من المتجر أو أكثر ، وقد عم ذلك وغيره قوله : { في سبيل الله } أي الملك الأعظم الذي يرجى خيره ويخشى ضيره ، بخلاف من يكون وما يكون به اللهو اللعب . ولما أخبر بدعائهم ، فصلهم فقال تعالى : { فمنكم } أي أيها المدعون { من يبخل } وهو منكم لا شك فيه ، وحذف القسم الآخر وهو " ومنكم من يجود " لأن المراد الاستدلال على ما قبله من البخل . ولما كان بخله عمن أعطاه المال بجزء يسير منه إنما طلبه ليقع المطلوب منه فقط زاد العجب بقوله : { ومن } أي والحال أنه من { يبخل } بذلك { فإنما يبخل } أي بماله بخلاً صادراً { عن نفسه } التي هي منبع الدنايا ، فلا تنفس ولا تنافس إلا في الشيء الخسيس ، فإن نفع ذلك الذي طلب منه فبخل به إنما هو له ، وأكده لأنه لا يكاد أحد يصدق أن عاقلاً يتجاوز بماله عن نفع نفسه ، ولذا حذف " ومن يجد فإنما يجد على نفسه " لفهمه عن السياق واستغناء الدليل عنه ، هذا والأحسن أن يكون " يبخل " متضمناً " يمسك " ثم حذف " يمسك " ودل عليه بحال محذوفة دل عليها التعدية بعن . ولما كان سؤال المال قد يوهم شيئاً ، قال مزيلاً له مقرراً لأن بخل الإنسان إنما هو عن نفسه عطفاً على ما تقديره : لأن ضرر بخله إنما يعود عليه وهو سبحانه لم يسألكم ذلك لحاجته إليه ولا إلى شيء منكم ، بل لحاجتكم إلى الثواب ، وهو سبحانه قد بنى أمور هذه الدار كما اقتضته الحكمة على الأسباب : { والله } أي الملك الأعظم الذي له الإحاطة بجميع صفات الكمال { الغني } أي وحده { وأنتم } أيها المكلفون خاصة { الفقراء } لأن العطاء ينفعكم والمنع يضركم . فمن افتقر منكم إلى فقير مثله وقع في الذل والهوان ، وقد جرت عادتكم أن يداخلكم من السرور ما لا يجد إذا طلب من أحد منكم أحد من الأجواد الأغنياء شيئاً طمعاً في جزائه ، فكونوا كذلك وأعظم إذا طلب منكم الغنى المطلق . ولما كان التقدير : فإن تقبلوا بنولكم تفلحوا عطف عليه قوله مرهباً لأن الترهيب أردع : { وإن تتولوا } أي توقعوا التولي عنه تكلفوا أنفسكم ضد ما تدعو إليه الفطرة الأولى من السماح بذلك الجزاء اليسير جداً الموجب للثواب الخطير والفوز الدائم ، ومن الجهاد في سبيله ، والقيام بطاعته ، لكونه المحسن الذي لا محسن في الحقيقة غيره { يستبدل } أي يوجد { قوماً } فيهم قوة وكفاية لما يطلب منهم محاولته . ولما كان ذلك مفهماً أنهم غيرهم ، لكنه لا يمنع أن يكونوا - مع كونهم غير أعيانهم - من قومهم أو أن يشأ دونهم في الصفات وإن كانوا من غير قومهم ، نبه على أنهم يكونون من غير قومهم وعلى غير صفاتهم ، بل هم أعلى منهم درجة وأكرم خليقة وأحسن فعلاً فقال تعالى : { غيركم } أي بدلاً منكم وهو على غير صفة التولي . ولما كان الناس متقاربين في الجبلات ، وكان المال محبوباً ، كان من المستبعد جداً أن يكون هذا البذل على غير ما هم عليه ، قال تعالى مشيراً إلى ذلك بحرف التراخي تأكيداً لما أفهمه ما قلته من التعبير بـ " غير " وتثبيتاً له : { ثم } أي بعد استبعاد من يستبعد وعلو الهمة في مجاوزة جميع عقبات النفس والشيطان : { لا يكونوا أمثالكم * } في التولي عنه بترك شيء مما أمر به أو فعل شيء مما نهى عنه ، ومن قدر على الإيجاد قدر على الإعدام . بل هو أهون في مجاري العادات ، فقد ثبت أنه سبحانه لو شاء لانتصر من الكفار ، إما بإهلاكهم أو إما بناس غيركم بضرب رقابهم وأسرهم ، وغير ذلك من أمرهم ، وثبت بمواصلة ذم الكفار مع قدرته عليهم أنه أبطل أعمالهم ، فرجع بذلك أول السورة إلى آخرها ، وعانق موصله ما ترى من مفصلها ، وعلم أن معنى هذا الآخر وذلك الأول أنه سبحانه لا بد من إذلاله للكافرين وإعزازه للمؤمنين لأنهم إن أقبلوا على ما يرضيه فجاهدوا نصرهم نصراً عزيزاً بما ضمنه قوله تعالى { إن تنصروا الله ينصركم وثبت أقدامكم } وإن تتولوا أتى بقوم غيركم يقبلون عليه فيصدقهم وعده ، فصار خذلانهم أمراً متحتماً ، وهو معنى أول سورة محمد - والله الموفق لما يريد من الصواب .