Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 49, Ayat: 15-18)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما نفى عنهم الإيمان ، وكان ربما غلط شخص في نفسه فظن أنه مؤمن ، وليس كذلك ، أخبر بالمؤمن على سبيل الحصر ذاكراً أمارته الظاهرة الباطنة ، وهي أمهات الفضائل : العلم والعفة والشجاعة ، فقال جواباً لمن قال : فمن الذي آمن ؟ عادلاً عن جوابه إلى وصف الراسخ ترغيباً في الاتصاف بوصفه وإيذاناً بأن المخبر عن نفسه بآية إيمانه لا يريد إلا أنه راسخ : { إنما المؤمنون } أي العريقون في الإيمان الذي هو حياة القلوب ، قال القشيري : والقلوب لا تحيا إلا بعد ذبح النفوس ، والنفوس لا تموت ولكنها تعيش { الذين آمنوا } أي صدقوا معترفين { بالله } معتقدين جميع ما له من صفات الكمال { ورسوله } شاهدين برسالته ، وهذا هو المعرفة التي هي العلم ، وغايتها الحكمة ، وهذا الإثبات هنا يدل على أن المنفي فيما قيل الكمال لا المطلق ، وإلا لقال " إنما الذين آمنوا " . ولما كان هذا عظيماً والثبات عليه أعظم ، وهو عين الحكمة ، أشار إلى عظيم مزية الثبات بقوله : { ثم } أي بعد امتطاء هذه الرتبة العظيمة { لم يرتابوا } أي ينازعوا الفطرة الأولى في تعمد التسبب إلى الشك ولم يوقعوا الشك في وقت من الأوقات الكائنة بعد الإيمان ، فلا يزال على تطاوله الأمنة وحصول الفتن وصفهم بعد الريب غضاً جديداً ، ولعله عبر بصيغة الافتعال إشارة إلى العفو عن حديث النفس الذي لا يستطيع الإنسان دفع أصله ويكرهه غاية الكراهة ويجتهد في دفعه ، فإذا أنفس المذموم المشي معه والمطاولة منه حتى يستحكم . ولما ذكر الأمارة الباطنة على وجه جامع لجميع العبادات المالية والبدنية قال : { وجاهدوا } أي أوقعوا الجهاد بكل ما ينبغي أن تجهد النفس فيه تصديقاً لما ادعوه بألسنتهم من الإيمان { بأموالهم } وذلك هو العفة { وأنفسهم } أعم من النية وغيرها ، وذلك هو الشجاعة ، وقدم الأموال لقلتها في ذلك الزمان عند العرب { في سبيل الله } أي طريق الملك الأعظم بقتال الكفار وغيره من سائر العبادات المحتاجة إلى المال والنفس لا الذين يتخلفون ويقولون : شغلتنا أموالنا وأهلونا ، قال القشيري : جعل الله الإيمان مشروطاً بخصال ذكرها ، وذكر بلفظ " إنما " وهي للتحقيق ، تقتضي الطرد والعكس ، فمن أفرد الإيمان عن شرائطه التي جعلها له فمردود عليه قوله ، والإيمان للعبد الأمان ، فإيمان لا يوجب الأمان لصاحبه فخلافه أولى به . ولما عرف بهم بذكر أمارتهم على سبيل الحصر ، أنتج ذلك حصراً آخر قطعاً لأطماع المدعين على وجه أثنى عليهم فيه بما تعظم المدحة به عندهم ترغيباً في مثل حالهم فقال : { أولئك } أي العالو الرتبة الذين حصل لهم استواء الأخلاق والعدل في الدين بجميع أمهات الأخلاق { هم } أي خاصة { الصادقون * } قالاً وحالاً وفعالاً ، وأما غيرهم فكاذب . ولما كانوا كأنهم يقولون : نحن كذلك ، أمره صلى الله عليه وسلم بالإنكار عليهم والتوبيخ لهم دلالة على ما أشار إليه ختام الآية إحاطة علمه الذي تميز به الصادق من غيره من جميع الخلق فقال : { قل } أي لهؤلاء الأعراب مجهلاً لهم مبكتاً : { أتعلمون } أي أتخبرون إخباراً عظيماً بلغياً ، كأنهم لما آمنوا كان ذلك إعلاماً منهم ، فلما قالوا آمنا كان ذلك تكريراً ، فكان في صورة التعليم ، فبكتهم بذلك { الله } أي الملك الأعظم المحيط قدرة وعلماً { بدينكم } فلذلك تقولون : آمنا ، ففي ذلك نوع بشرى لهم لأنه أوجد لهم ديناً وأضافه إليهم - قاله ابن برجان . ولما أنكر عليهم وبكتهم وصل به ما يشهد له فقال : { والله } أي والحال أن الملك المحيط بكل شيء { يعلم ما في السماوات } كلها على عظمها وكثرة ما فيها ومن فيها . ولما كان في سياق الرد عليهم والتبكيت لهم كان موضع التأكيد فقال : { وما في الأرض } كذلك . ولما كان المقام للتعميم ، أظهر ولم يضمر لئلا يوهم الاختصاص بما ذكر من الخلق فقال : { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { بكل شيء } أي مما ذكر ومما لم يذكر { عليم * } . ولما كان قولهم هذا صورته صورة المنة ، قال مترجماً له مبكتاً لهم عليه معبراً بالمضارع تصويراً لحاله في شناعته : { يمنون عليك } أي يذكرون ذكر من اصطنع عندك صنيعة وأسدى إليك نعمة ، إنما فعلها لحاجتك إليها لا لقصد الثواب عليها ، لأن المن هو القطع - قال في الكشاف : لأنه إنما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير ، من غير أن يعمد لطلب مثوبة ، ثم يقال : من عليه ضيعة - إذا اعتده عليه منة وإنعاماً . ولما كان الإسلام ظاهراً في الدين الذي هو الانقياد بالظاهر مع إذعان الباطن لم يعبر به ، وقال : { إن أسلموا } أي أوقعوا الانقياد للأحكام في الظاهر . ولما كان المن هو القطع من العطاء الذي لا يراد عليه جزاء ، قال : { قل } أي في جواب قولهم هذا : { لا تمنوا } معبراً بما من المن إشارة إلى أن الإسلام لا يطلب جزاؤه إلا من الله ، فلا ينبغي عده صنيعة على أحد ، فإن ذلك يفسده { عليّ إسلامكم } لو فرض أنكم كنتم مسلمين أي متدينين بدين الإسلام الذي هو انقياد الظاهر مع إذعان الباطن ، أي لا تذكروه على وجه الامتنان أصلاً ، فالفعل وهو { تمنوا } مضمن " تذكروا " نفسه لا معناه كما تقدم في { ولتكبروا الله على ما هداكم } { بل الله } أي الملك الأعظم الذي له المنة على كل موجود ولا منة عليه بوجه { يمن عليكم } أي يذكر أنه أسدى إليكم نعمه ظاهرة وباطنة منها ما هو { أن } أي بأن { هداكم للإيمان } أي بينة لكم أو وفقكم للاهتداء وهو تصديق الباطن مع الانقياد بالظاهر ، والتعبير عن هذا بالمن أحق مواضعه ، فإنه سبحانه غير محتاج إلى عمل فإنه لا نفع يلحقه ولا ضر ، وإنما طلب الأعمال لنفع العاملين أنفسهم ، ومن عليهم بأن أرسل رسوله صلى الله عليه وسلم فبين لهم فكذبوه بأجمعهم ، فلم يزل يقويه حتى أظهر فيه آية مجده وأظهر دينه على الدين كله ، ودخل فيه الناس طوعاً وكرهاً على وجوه من المجد يعرفها من استحضر السيرة ولا سيما من عرف أمر بني أسد وغطفان الذين نزلت فيهم هذه الآيات ، وكيف كان حالهم في غزوة خيبر وغيره . ولما كان المراد بهذا تجهيلهم وتعليمهم حقائق الأمور ، لا الشهادة لهم بالهداية ، قال منبهاً على ذلك : { إن كنتم } أي كوناً أنتم عريقون فيه { صادقين * } في ادعائكم ذلك ، فإنه على تقدير الصدق إنما هو بتوفيق الله وهو الذي خلق لكم قدرة الطاعة ، فهو الفاعل في الحقيقة فله المنة عليكم ، قال الأستاذ أبو القاسم القشيري : من لاحظ شيئاً من أعماله وأحواله فإن رآها دون نفسه كان شركاً ، وإن رآها لنفسه كان مكراً ، فكيف يمن العبد بما هو شرك أو مكر ، والذي يجب عليه قبول المنة كيف يرى لنفسه على غيره منة ، هذا لعمري فضيحة ، والمنة تكدر الصنيعة ، إذا كانت من المخلوقين ، وبالمنة تطيب النعمة إذا كانت من قبل الله . ولما نفى عنهم ما هو باطن ، وختم جدالهم سبحانه بهذه الشرطية ، فكان ربما توهم قاصر النظر جامد الفكر عدم العلم بما هو عليه ، أزال ذلك على وجه عام ، وأكده لذلك فقال : { إن الله } أي المحيط بكل شيء قدرة وعلماً { يعلم } أي بطريق ثبوت الصفة وتجريد التعلق واستمراره كلما تجدد محدث أو كان بحيث يتجدد { غيب السماوات } أي كلها { والأرض } كذلك . ولما أريد التعميم من غير تقييد بالخافقين أظهر ولم يضمر قوله : { والله } أي الذي له الإحاطة بذلك وبغيره مما لا تعلمون { بصير } أي عالم أتم العلم ظاهراً وباطناً { بما تعملون * } من ظاهر إسلامكم وباطن إيمانكم في الماضي والحاضر والآتي سواء كان ظاهراً أو باطناً سواء كان قد حدث فصار بحيث تعلمونه أنتم أو كان مغروزاً في جبلاتكم وهو خفي عنكم - هذا على قراءة الخطاب التفات إليهم لاستنقاذ من توهم منهم هذا التوهم ، وهي أبلغ ، وعلى قراءة ابن كثير بالغيب يكون على الأسلوب الأول مما أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإبلاغه لهم ، فهو سبحانه عالم بمن انطوى ضميره على الإيمان ، ومن هو متكيف بالكفران ، ومن يموت على ما هو عليه ، ومن يتحول حاله بإبعاد عنه أو جذب إليه ، قال القشيري رحمه الله تعالى : ومن وقف ههنا تكدر عليه العيش إذ ليس يدري ما غيبه فيه ، وفي المعنى قال : @ أبكي وهل تدرين ما يبكيني أبكي حذاراً أن تفارقيني وتقطعي حبلي وتهجريني @@ انتهى . وفي ذلك أعظم زجر وترهيب لمن قدم بين يدي الله ورسوله ولو أن تقدمه في سره . فإنه لا تهديد أبلغ من إحاطة العلم ، فكأنه قيل : لا تقدموا بين يديه فإن الله محيط العلم فهو يعلم سركم وجهركم ، فقد رجع هذا الآخر إلى الأول ، والتف به التفاف الأصل بالموصل .