Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 115-117)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان ظاهر سؤالهم من الاستفهام عن الاستطاعة للاضطراب وإن كان للإلهاب ، أكد الجواب فقال : { إني منزلها عليكم } أي الآن بقدرتي الخاصة بي { فمن يكفر بعد } أي بعد إنزالها { منكم } وهذا السياق معشر بأنه يحصل منهم كفر ، وقد وجد ذلك حتى في الحواريين على ما يقال في يهودا الإسخريوطي أحدهم الذي دل على عيسى عليه السلام ، فألقى شبهه عليه ، ولهذا خصه بهذا العذاب فقال : { فإني أعذبه } أي على سبيل البتّ والقطع { عذاباً لا أعذبه } أي مثله أبداً فيما يأتي من الزمان { أحداً من العالمين * } وفي هذا أتم زاجر لهذه الأمة عن اقتراح الآيات ، وفي ذكر قصة المائدة في هذه السورة التي افتتحت بإحلال المآكل واختتمت بها أعظم تناسب ، وفي ذلك كله إشارة إلى تذكير هذه الأمة بما أنعم عليها بما أعطى نبيها من المعجزات ومنَّ عليها به من حسن الاتباع ، وتحذير من كفران هذه النعم المعددة عليهم ، وقد اختلف المفسرون في حقيقة هذه المائدة وفي أحوالها ؛ قال أبو حيان : وأحسن ما يقال فيه ما خرجه الترمذي في أبواب التفسير عن عمار بن ياسر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنزلت المائدة من السماء خبزاً ولحماً ، وأمروا أن لا يدخروا لغد ولا يخونوا ، فخانوا وادخروا ورفعوا لغد ، فمسخوا قردة وخنازير " انتهى . قلت : ثم صحح الترمذي وقفه على عمار وقال : لا نعلم للحديث المرفوع أصلاً ، غير أن ذلك لا يضره لكونه لا يقال من قِبَل الرأي ، ولا أعلم أحداً ذكر عماراً فيمن أخذ عن أهل الكتاب ، فهو مرفوع حكماً ، وهذا الخبر يؤكد أن الخبر في الآية على بابه ، فيدفع قول من قال : إنها لم تنزل ، لأنهم لما سمعوا الشرط قالوا : لا حاجة لنا بها ، لأن خبره تعالى لا يخلف ولا يبدل القول لديه ، وهذا الرزق الذي من السماء قد وقع مثله لآحاد الأمة ؛ روى البيهقي في أواخر الدلائل عن أبي هريرة قال : كانت امرأة من دوس يقال لها أم شريك أسلمت في رمضان ، فأقبلت تطلب من يصحبها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلقيت رجلاً من اليهود فقال : ما لك يا أم شريك ؟ قالت : أطلب رجلاً يصحبني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فتعالي فأنا أصحبك ، قالت : فانتظرني حتى أملأ سقائي ماءً ، قال : معي ماء ما لا تريدين ماءً ، فانطلقت معهم فساروا يومهم حتى أمسوا ، فنزل اليهودي ووضع سفرته فتعشى وقال : يا أم شريك ! تعالي إلى العشاء ! فقالت : اسقني من الماء فإني عطشى ، ولا أستطيع أن آكل حتى أشرب ، فقال لها : لا أسقيك حتى تهودي ! فقالت : لا جزاك الله خيراً ! غربتني ومنعتني أن أحمل ماء ، فقال : لا والله لا أسقيك منه قطرة حتى تهودي ، فقالت : لا والله لا أتهود أبداً بعد إذ هداني الله للإسلام ؛ فأقبلت إلى بعيرها فعقلته ووضعت رأسها على ركبته فنامت ، قالت : فما أيقظني إلا برد دلو قد وقع على جبيني ، فرفعت رأسي فنظرت إلى ماء أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، فشربت حتى رويت ، ثم نضحت على سقائي حتى ابتل ثم ملأته ، ثم رفع بين يديّ وأنا أنظر حتى توارى عني في السماء ، فلما أصبحت جاء اليهودي فقال : يا أم شريك ! قلت : والله قد سقاني الله ، قال : من أين أنزل عليك ؟ من السماء ؟ قلت : نعم ، والله لقد أنزل الله عليّ من السماء ثم رفع بين يدي حتى توارى عني في السماء ؛ ثم أقبلت حتى دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصت عليه القصة ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها نفسها فقالت : يا رسول الله ! لست أرضي نفسي لك ولكن بضعي لك فزوجني من شئت ، فزوجها زيداً وأمر لها بثلاثين صاعاً وقال : كلوا ولا تكيلوا ، وكان معها عكة سمن هدية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت لجارية لها : بلغي هذه العكة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قولي : أم شريك تقرئك السلام ، وقولي : هذه عكة سمن أهديناها لك ، فانطلقت بها الجارية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوها ففرغوها ، وقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : علقوها ولا توكوها ، فعلقوها في مكانها ، فدخلت أم شريك فنظرت إليها مملوءة سمناً ، فقالت : يا فلانة ! أليس أمرتك أن تنطلقي بهذه العكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقالت : قد والله انطلقت بها كما قلت ، ثم أقبلت بها أضربها ما يقطر منها شيء ولكنه قال : علقوها ولا توكوها ، فعلقتها في مكانها ، وقد أوكتها أم شريك حين رأتها مملوءة فأكلوا منها حتى فنيت ، ثم كالوا الشعير فوجدوه ثلاثين صاعاً لم ينقص منه شيء ، قال : وروي ذلك من وجه آخر ، ولحديثه شاهد صحيح عن جابر رضي الله عنه . وروي بإسناده عن أبي عمران الجوني أن أم أيمن هاجرت من مكة إلى المدينة وليس معها زاد ، فلما كانت عند الروحاء وذلك عند غيبوبة الشمس عطشت عطشاً شديداً ، قالت : فسمعت هفيفاً شديداً فوق رأسي ، فرفعت رأسي فإذا دلو مدلى من السماء برشاء أبيض ، فتناولته بيدي حتى استمسكت به ، قالت : فشربت منه حتى رويت ، قالت : فلقد أصوم بعد تلك الشربة في اليوم الحار الشديد الحر ثم أطوف في الشمس كي أظمأ فما ظمئت بعد تلك الشربة . قال : وفي الجهاد عن البخاري عن أبي هريرة قال : " بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عشرة رهط سرية عيناً ، وأمَّر عليهم عاصم بن ثابت الأنصاري جد عاصم بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهم - فذكر الحديث حتى قال : فابتاع خبيباً - يعني ابن عدي الأنصاري - بنو الحارث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف ، وكان خبيب قد قتل الحارث بن عامر يوم بدر ، فلبث خبيب عندهم أسيراً ، فأخبرني عبيد الله بن عياض أن ابنة الحارث قالت : والله ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب ، والله لقد وجدته يوماً يأكل من قطف عنب في يده وإنه لموثق في الحديد وما بمكة من ثمر ، وكانت تقول : إنه لرزق من الله رزق خبيباً " الحديث . ومن الأمر الجلي أن عيسى عليه السلام بعد أمر الله تعالى له بذكر هذه النعم يقول في ذلك الجمع فيذكرها ويذكر المقصود من التذكير بها ، وهو الثناء على المنعم بها بما يليق بجلاله ، فيحمد ربه تعالى بمحامد تليق بذلك المقام في ذلك الجمع ، فمن أنسب الأمور حينئذ سؤاله - وهو المحيط علماً بمكنونات الضمائر وخفيات السرائر إثر التهديد لمن يكفر - عما كفر به النصارى ، فلذلك قال تعالى عاطفاً على قوله { إذا قال الله يا عيسى ابن مريم اذكر نعمتي عليك } [ المائدة : 110 ] { وإذ قال الله } أي بما له من صفات الجلال والجمال مشيراً إلى ما له من علو الرتبة بأداة النداء : { يا عيسى بن مريم } وذلك تحقيقاً لأنه عمل بمقتضى النعمة وتبكيتاً لمن ضل فيه من النصارى وإنكاراً عليهم { أأنت قلت للناس } أي الذين أرسلت إليهم من بني إسرائيل ، وكأنه عبر بذلك لزيادة التوبيخ لهم ، لكونهم اعتقدوا ذلك وفيهم الكتاب ، فكأنه لا ناس غيرهم { اتخذوني } أي كلفوا أنفسكم خلاف ما تعتقدونه بالفطرة الأولى في الله بأن تأخذوني { وأمي إلهين } . ولما كانت عبادة غير الله - ولو كانت على سبيل الشرك - مبطلة لعبادة الله ، لأنه سبحانه أغنى الأغنياء ، ولا يرضى الشرك إلا فقير ، قال : { من دون الله } أي الملك الأعلى الذي لا كفوء له ، فيكون المعنى : اتخذوا تألهنا سلماً تتوصلون به إلى الله ، ويجوز أن يكون المعنى على المغايرة ، ولا دخل حينئذ للمشاركة . ولما كان من المعلوم لنا في غير موضع أنه لم يقل ذلك ، صرح به هنا توبيخاً لمن أطراه ، وتأكيداً لما عندنا من العلم ، وتبجيلاً له صلى الله عليه وسلم بما يبدي من الجواب ، وتفضيلاً بالإعلام بأنه لم يحد عن طريق الصواب ، بل بذل الجهد في الوفاء بالعهد ، وتقريعاً لمن قال ذلك عنه وهو يدعي حبه واتباعه عليه السلام وتخجيلاً لهم ، فلما تشوفت لجوابه الأسماع وأصغت له الآذان ، وكان في ذكره من الحكم ما تقدمت الإشارة إليه ، ذكره سبحانه قائلاً : { قال } مفتتحاً بالتنزيه { سبحانك } أي لك التنزه الأعظم عن كل شائبة نقص ، ودل بالمضارع على أن هذا القول لا يزال ممنوعاً منه فقال : { ما يكون لي } أي ما ينبغي ولا يصح أصلاً { أن أقول } أي في وقت من الأوقات { ما ليس لي } وأغرق في النفي كما هو حق المقام فقال : { بحق } . ولما بادر عليه السلام إعظاماً للمقام إلى الإشارة إلى نفي ما سئل عنه ، أتبعه ما يدل على أنه كان يكفي في الجواب عنه : أنت أعلم ، وإنما أجاب بما تقدم إشارة إلى أن هذا القول تكاد السماوات يتفطرن منه ومبادرة إلى تبكيت من ادّعاه له ، فقال دالاً على أنه لم يقنع بما تضمن أعظم المدح لأن المقام للخضوع : { إن كنت قلته } أي مطلقاً للناس أو حدثت به نفسي { فقد علمته } وهو مبالغة في الأدب وإظهار الذلة وتفويض الأمر كله إلى رب العزة ؛ ثم علل الإخبار بعلمه بما هو من خواص الإله فقال : { تعلم } ولما كانت النفس يعبر بها عن الذات ، وكان القول يطلق على النفس ، فإذا انتفى انتفى اللساني ، قالك { ما في نفسي } أي وإن اجتهدت في إخفائه ، فإنه خلقك ، وما أنا له إلا آلة ووعاء ، فكيف به إن كنت أظهرته . ولما أثبت له سبحانه ذلك ، نفاه عن نفسه توبيخاً لمن ادعى له الإلهية فقال مشاكلة : { ولا أعلم ما في نفسك } أي ما أخفيته عني من الأشياء ؛ ثم علل الأمرين كليهما بقوله : { إنك أنت } أي وحدك لا شريك لك { علام الغيوب * } . ولما نفى عن نفسه ما يستحق النفي ودل عليه ، أثبت ما قاله لهم على وجه مصرح بنفي غيره ليكون ما نسب إليه من دعوى الإلهية منفياً مرتين : إشارة وعبارة ، فقال معبراً عن الأمر بالقول مطابقة للسؤال ، وفسر بالأمر بياناً لأن كل ما قاله من مباح أو غيره دائر على الأمر من حيث الاعتقاد بمعنى أن المخاطب بما قاله الرسول مأمور بأن يعتقد فيه أنه بتلك المنزلة ، لا يجوز أن يعتقد فيه أنه فوقها ولا دونها ، يعبد الله تعالى بذلك : { ما قلت لهم } أي ما أمرتهم بشيء من الأشياء { إلا ما أمرتني به } ثم فسره دالاً بشأن المراد بالقول الأمر بالتعبير في تفسيره بحرف التفسير بقوله : { أن اعبدوا } أي ما أمرتهم إلا بعبادة { الله } أي الذي لم يستجمع نعوت الجلال والجمال أحد غيره ؛ ثم أشار إلى أنه كما يستحق العبادة لذاته يستحقها لنعمه فقال : { ربي وربكم } أي أنا وأنتم في عبوديته سواء ، وهذا الحصر يصح أن يكون للقلب على أن دون بمعنى غير ، وللإفراد على أنها بمعنى سفول المنزلة ، وهو من بدائع الأمثلة . ولما فهم صلى الله عليه وسلم من هذا السؤال أن أتباعه غلوا في شأنه ، فنزه الله سبحانه وعز شأنه من ذلك وأخبره بما أمر الناس به في حقه سبحانه من الحق ، اعتذر عن نفسه بما يؤكد ما مضى نفياً وإثباتاً فقال : { وكنت عليهم } أي خاصة لا على غيرهم . ولما كان سبحانه قد أرسله شاهداً ، زاد في الطاعة في ذلك إلى أن بلغ جهده كإخوانه من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فقال معبراً بصيغة المبالغة : { شهيداً } أي بالغ الشهادة ، لا أرى فيهم منكراً إلا اجتهدت في إزالته { ما دمت فيهم } وأشار إلى الثناء على الله بقوله : { فلما توفيتني } أي رفعتني إلى السماء كامل الذات والمعنى مع بذلهم جهدهم في قتلي { كنت أنت } أي وحدك { الرقيب } أي الحفيظ القدير { عليهم } لا يغيب عليك شيء من أحوالهم ، وقد منعتهم أنت أن يقولوا شيئاً غير ما أمرتهم أنا به من عبادتك بما نصبت لهم من الأدلة وأنزلت عليهم على لساني من البينات { وأنت على كل شيء } أي منهم ومن غيرهم حيوان وجماد { شهيد * } أي مطلع غاية الاطلاع ، لا يغيب عنك شيء منه سواء كان في عالم الغيب أو الشهادة ، فإن كانوا قالوا ذلك فأنت تعلمه دوني ، لأني لما بعدت عنهم في المسافة انقطع علمي عن أحوالهم .