Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 54-58)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما نهى عن موالاتهم وأخبر أن فاعلها منهم . نفى المجاز مصرحاً بالمقصود فقال مظهراً لنتيجة ما سبق : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ! من يوالهم منكم - هكذا كان الأصل ، ولكنه صرح بأن ذلك ترك الدين فقال : { من يرتد } ولو على وجه خفي - بما أشار إليه الإدغام في قراءة من سوى المدنيين وابن عامر { منكم عن دينه } أي الذي معناه موالاة أولياء الله ومعاداة أعداء الله ، فيوالون أعداءه ويتركون أولياءه ، فيبغضهم الله ويبغضونه ، ويكونون أعزة على المؤمنين أذلة على الكافرين ، فالله غني عنهم { فسوف يأتي الله } اي الذي له الغنى المطلق والعظمة البالغة مكانهم وإن طال المدى بوعد صادق لا خلف فيه { بقوم } أي يكون حالهم ضد حالهم ، يثبتون على دينهم ، وهم أبو بكر والتابعون له بإحسان - رضي الله عنهم . ولما كانت محبته أصل كل سعادة قدمها فقال : { يحبهم } فيثبتهم عليه ويثيبهم بكرمه أحسن الثواب { ويحبونه } فيثبتون عليه ، ثم وصفهم بما يبين ذلك فقال : { أذلة } وهو جمع ذليل ؛ ولما كان ذلهم هذا إنما هو الرفق ولين الجانب لا الهوان ، كان في الحقيقة عزاً ، فأشار إليه بحرف الاستعلاء مضمناً له معنى الشفقة ، فقال مبيناً أن تواضعهم عن علو منصب وشرف : { على المؤمنين } أي لعلمهم أن الله يحبهم { أعزة على الكافرين } أي يظهرون الغلظة والشدة عليهم لعلهم أن الله خاذلهم ومهلكهم وإن اشتد أمرهم وظهر علوهم وقهرهم ، فالآية من الاحتباك : حذف أولاً البغض وما يثمره لدلالة الحب عليه ، وحذف ثانياً الثبات لدلالة الردة عليه ؛ ثم علل ذلك بقوله : { يجاهدون } أي يوقعون الجهاد على الاستمرار لمن يستحقه من غير ملال ولا تكلف كالمنافقين ، وحذف المفعول تعميماً ودل عليه مؤذناً بأن الطاعة محيطة بهم فقال : { في سبيل الله } أي طريق الملك الأعظم الواسع المستقيم الواضح ، لا لشيء غير ذلك كالمنافقين . ولما كان المنافقون يخرجون في الجهاد ، فصلهم منهم بقوله : { ولا } أي والحال أنهم لا { يخافون لومة } أي واحدة من لوم { لائم } وإن كانت عظيمة وكان هو عظيماً ، فبسبب ذلك هم صلاب في دينهم , إذا شرعوا في أمر من أمور الدين - أمر بالمعروف أو نهي عن منكر - كانوا كالمسامير المحماة ، لا يروِّعهم قول قائل ولا اعتراض معترض ، ويفعلون في الجهاد في ذلك جميع ما تصل قدرتهم وتبلغ قوتهم إليه من إنكال الأعداء وإهانتهم ومناصرة الأولياء ومعاضدتهم ، وليسوا كالمنافقين يخافون لومة أوليائهم من اليهود فلا يفعلون وإن كانوا مع المؤمنين شيئاً ينكيهم . ولما كانت هذه الأوصاف من العلو في رتب المدح بمكان لا يلحق ، قال مشيراً إليها بأداة البعد واسم المذكر : { ذلك } أي الذي تقدم من أوصافهم العالية { فضل الله } أي الحاوي لكل كمال { يؤتيه } أي الله لأنه خالق لجميع أفعال العباد { من يشاء } أي فليبذل الإنسان كل الجهد في طاعته لينظر إليه هذا النظر برحمته { والله } أي الذي له الإحاطة الكاملة { واسع } أي محيط بجميع أوصاف الكمال ، فهو يعطي من سعة ليس لها حد ولا يلحقها أصلاً نقص { عليم * } أي بالغ العلم بمن يستحق الخير ومن يستوجب غيره ، وبكل ما يمكن علمه . ولما نفى سبحانه ولايتهم بمعنى المحبة وبمعنى النصرة وبمعنى القرب بكل اعتبار ، أنتج ذلك حصر ولاية كل من يدعي الإيمان فيه وفي أوليائه فقال : { إنما وليكم الله } أي لأنه القادر على ما يلزم الولي ، ولا يقدر غيره على شيء من ذلك إلاّ به سبحانه ؛ ولما ذكر الحقيق بإخلاص الولاية له معلماً بأفراد المبتدأ أنه الأصل في ذلك وما عداه تبع ، أتبعه من تعرف ولايته سبحانه بولايتهم بادئاً بأحقهم فقال : { ورسوله } وأضافة إليه إظهاراً لرفعته { والذين آمنوا } أي أوجدوا الإيمان وأقروا به , ثم وصفهم بما يصدق دعواهم الإيمان فقال : { والذين يقيمون الصلاة } أي تمكيناً لوصلتهم بالخالق { ويؤتون الزكاة } إحساناً إلى الخلائق ، وقوله : { وهم راكعون * } يمكن أن يكون معطوفاً على { يقيمون } أي ويكونون من أهل الركوع ، فيكون فضلاً مخصصاً بالمؤمنين المسلمين ، وذلك لأن اليهود والنصارى لا ركوع في صلاتهم - كما مضى بيانه في آل عمران ، ويمكن أن يكون حالاً من فاعل الإيتاء ؛ وفي أسباب النزول أنها نزلت في عليّ رضي الله عنه ، سأله سائل وهو راكع فطرح له خاتمه . وجمع وإن كان السبب واحداً ترغيباً في مثل فعله من فعل الخير والتعجيل به لئلا يظن أن ذلك خاص به . ولما كان التقدير : فمن يتول غيرهم فأولئك حزب الشيطان ، وحزب الشيطان هم الخاسرون ، عطف عليه : { ومن يتول الله } أي يجتهد في ولاية الذي له مجامع العز { ورسوله } الذي خُلقه القرآن { والذين آمنوا } وأعاد ذكر من خص الولاية بهم تبركاً بأسمائهم وتصريحاً بالمقصود ، فإنهم الغالبون - هكذا كان الأصل ، ولكنه أظهر ما شرفهم به ترغيباً لهم في ولايته فقال : { فإن حزب الله } أي القوم الذين يجمعهم على ما يرضي الملك الأعلى ما حزبهم أي اشتد عليهم فيه { هم الغالبون * } أي لا غيرهم ، بل غيرهم مغلوبون ، ثم إلى النار محشورون ، لأنهم حزب الشيطان . ولما نبه سبحانه على العلل المانعة من ولاية الكفار وحصر الولاية فيه سبحانه ، أنتج ذلك قطعاً قوله منبهاً على علل أخرى موجهاً للبراءة منهم : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا بالإيمان ، ونبه بصيغة الافتعال على أن من يوالهم يجاهد عقله على ذلك اتباعاً لهواه فقال : { لا تتخذوا الذين اتخذوا } أي بغاية الجد والاجتهاد منهم { دينكم } أي الذي شرفكم الله به { هزواً ولعباً } ثم بين المنهي عن موالاتهم بقوله : { من الذين } . ولما كان المقصود بهم منح العلم ، وهو كاف من غير حاجة إلى تعيين المؤتي ، بني للمجهول قوله : { أوتوا الكتاب } ولما كان تطاول الزمان له تأثير فيما عليه الإنسان من طاعة أو عصيان ، وكان الإيتاء المذكور لم يستغرق زمان القبل قال : { من قبلكم } يعني أنهم فعلوا الهزو عناداً بعد تحققهم صحة الدين . ولما خص عم فقال : { والكفار } أي من عبدة الأوثان الذين لا علم لهم نُقِلَ عن الأنبياء ، وإنما ستروا ما وضح لعقولهم من الأدلة فكانوا ضالين ، وكذا غيرهم ، سواء علم أنهم يستهزؤون أولا ، كما أرشد إليه غير قراءة البصريين والكسائي بالنصب { أولياء } أي فإن الفريقين اجتمعوا على حسدكم وازدرائكم ، فلا تصح لكم موالاتهم أصلاً . ولما كان المستحق لموالاة شخص - إذا تركه ووالى غيره - يسعى في إهانته ، حذرهم وقوعهم بموالاتهم على ضد مقصودهم فقال : { واتقوا الله } من له الإحاطة الكاملة ، فإن من والى غيره عاداه ، ومن عاداه هلك هلاكاً لا يضار معه { إن كنتم مؤمنين * } أي راسخين في الإيمان بحيث صار لكم جبلة وطبعاً ، فإن لم تخافوه بأن تتركوا ما نهاكم عنه فلا إيمان . ولما عم في بيان استهزائهم جميع الدين ، خص روحه وخالصته وسره فقال : { وإذا ناديتم } أي دعا بعضكم الباقين إلى الإقبال إلى الندى وهو المجتمع ، فأجابه الباقون بغاية الرغبة ، ومنه دار الندوة ، أو يكون المعنى أن المؤذن كلم المسلمين برفع صوته كلام من هو معهم في الندى بالقول فأجابوه بالفعل ، فكان ذلك مناداة - هذا أصله ، فعبر بالغاية التي يكون الاجتماع بها فقال مضمناً له الانتهاء : { الى الصلاة } أي التي هي أعظم دعائم الدين ، وموصل إلى الملك العظيم ، وعاصم بحبلة المتين { اتخذوها } على ما لها من العظمة والجد والبعد من الهزء بغاية هممهم وعزائمهم { هزواً ولعباً } فيتعمدون الضحك والسخرية ويقولون : صاحوا كصياح العير - ونحو هذا ، وبين سبحانه أن سبب ذلك عدم انتفاعهم بعقولهم فكأنهم لا عقول لهم ، وذلك لأن تأملها - في التطهر لها وحسن حال فاعلها عند التلبس بها من التخلي عن الدنيا جملة والإقبال على الحضرة الإلهية ، والتحلي بالقراءة لأعظم الكلام ، والتخشع والتخضع لملك الملوك الذي لم تخف عظمته على أحد ، ولا نازع قط في كبريائه وقدرته منازع - بمجرده كافٍ في اعتقاد حسنها وجلالها وهيبتها وكمالها فقال : { ذلك } أي الأمر العظيم الشناعة { بأنهم قوم } وإن كانوا أقوياء لهم قدرة على القيام في الأمور { لا يعقلون * } أي ليست لهم هذه الحقيقة ، ولو كان لهم شيء من عقل لعلموا أن النداء بالفم أحسن من التبويق وضرب الناقوس بشيء لا يقاس ، وأن التذلل بين يدي الله بالصلاة أمر لا شيء أحسن منه بوجه ، وللأذان من الأسرار ما تعجز عنه الأفكار ، منه أنه جعل تسع عشرة كلمة ، ليكف الله به عن قائله خزنة النار التسعة عشر ، وجعلت الإقامة إحدى عشرة كلمة رجاء أن يكون معتقدها رفيقاً لأحد عشر : العشرة المشهود لهم بالجنة ، وقطبهم وقطب الوجود كله النبي صلى الله عليه وسلم ، وناهيك أن من أسراره أنه جمع الدين كله أصولاً وفروعاً - كما بنت ذلك في كتابي " الإيذان بفتح أسرار التشهد والأذان " .