Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 5, Ayat: 90-92)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما تم بيان حال المأكل وكان داعية إلى المشرب ، احتيج إلى بيانه ، فبين تعالى المحرم منه . فعلم أن ما عداه مأذون في التمتع به ، وذلك محاذٍ في تحريم شيء مقترن باللازم بعد إحلال آخر لما في أول السورة من تحريم الميتة وما ذكر معها بعد إحلال بهيمة الأنعام وما معها ، فقال تعالى مذكراً لهم بما أقروا به من الإيمان الذي معناه الإذعان : { يا أيها الذين آمنوا } أي أقروا به . ونبههم على ما يريد العدو بهم من الشر بقوله تعالى : { إنما الخمر } وهي كل ما أسكر سواء فيه قليله وكثيره ، وأضاف إليها ما واخاها في الضرر ديناً ودنيا وفي كونه سبباً للخصام وكثرة اللغط المقتضي للحلف والإقسام تأكيداً لتحريم الخمر بالتنبيه على أن الكل من أفعال الجاهلية ، فلا فرق بين شاربها والذابح على النصب والمعتمد على الأزلام فقال : { والميسر } أي الذي تقدم ذكره في البقرة { والأنصاب والأزلام } المتقدم أيضاً ذكرُهما أول السورة ، والزلم : القدح لا ريش له - قاله البخاري ؛ وحكمة ترتيبها هكذا أنه لما كانت الخمر غاية في الحمل على إتلاف المال ، قرن بها ما يليها في ذلك وهو القمار ، ولما كان الميسر مفسدة المال ، قرن به مفسدة الدين وهي الأنصاب ، ولما كان تعظيم الأنصاب شركاً جلياً إن عبدت ، وخفياً إن ذبح عليها دون عبادة ، قرن بها نوعاً من الشرك الخفي وهو الاستقسام بالأزلام : ثم أمر باجتناب الكل إشارة وعبارة على أتم وجه فقال : { رجس } أي قذر أهل لأن يبعد عنه بكل اعتبار حتى عن ذكره سواء كان عيناً أو معنى ، وسواء كانت الرجسية في الحس أو المعنى ، ووحد الخبر للنص على الخمر والإعلام بأن أخبار الثلاثة حذفت وقدرت ، لأنها أهل لأن يقال في كل واحد منها على حدتها كذلك , ولا يكفي عنها خبر واحد على سبيل الجمع ؛ ثم زاد في التنفير عنها تأكيداً لرجسيتها بقوله : { من عمل الشيطان } أي المحترق البعيد ، ثم صرح بما اقتضاه السياق من الاجتناب فقال : { فاجتنبوه } أي تعمدوا أن تكونوا عنه في جانب آخر غير جانبه . وأفرد لما تقدم من الحِكَم ، ثم علل بما يفهم أنه لا فوز بشيء من المطالب مع مباشرتها فقال : { لعلكم تفلحون * } أي تظفرون بجميع مطالبكم ، روى البخاري في التفسير عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : " لقد حرمت الخمر وما بالمدينة منها شيء " وفي رواية : " نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربة ما فيها شراب العنب " وفي رواية عنه : " سمعت عمر على منبر النبي صلى الله عليه وسلم يقول : أما بعد أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر وهي من خمسة : من العنب - وفي رواية : من الزبيب - والتمر والعسل والحنطة والشعير ، والخمر ما خامر العقل " وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : " ما كان لنا خمر غير فضيخكم هذا ، وإني لقائم أسقي أبا طلحة وفلاناً وفلاناً إذ جاء رجل فقال : حرمت الخمر ، قالوا : أهرق هذه القلال يا أنس ! فما سألوا عنها ولا راجعوها بعد خبر الرجل " وفي رواية عنه : " حرمت علينا الخمر حين حرمت وما نجد خمر الأعناب إلا قليلاً ، وعامة خمرنا البسر والتمر " قال الأصبهاني : وذلك بعد غزوة الأحزاب بأيام . ولما كانت حكمة النهي عن الأنصاب والأزلام قد تقدمت في أول السورة ، وهي أنها فسق ، اقتصر على بيان علة النهي عن الخمر والميسر إعلاماً بأنهما المقصودان بالذات ، وإن كان الآخرينَ ما ضما إلا لتأكيد تحريم هذين - كما تقدم ، لأن المخاطب أهل الإيمان ، وقد كانوا مجتنبين لذينك ، فقال مؤكداً لأن الإقلاع عما حصل التمادي في المرون عليه يحتاج إلى مثل ذلك : { إنما يريد الشيطان } أي بتزيين الشرب والقمار لكم { أن يوقع بينكم العداوة } . ولما كانت العداوة قد تزول أسبابها ، ذكر ما ينشأ عنها مما إذا استحكم تعسر أو تعذر زواله ، فقال : { والبغضاء في الخمر والميسر } أي تعاطيهما لأن الخمر تزيل العقل ، فيزول المانع من إظهار الكامن من الضغائن والمناقشة والمحاسدة ، فربما أدى ذلك إلى حروب طويلة وأمور مهولة ، والميسر يذهب المال فيوجب ذلك الإحنة على من سلبه ماله ونغص عليه أحواله . ولما ذكر ضررهما في الدنيا ، ذكر ضررهما في الدين فقال : { ويصدكم عن ذكر الله } أي الملك الأعظم الذي لا إله لكم غيره ولا كفوء له ، وكرر الجار تأكيداً للأمر وتغليظاً في التحذير فقال : { وعن الصلاة } أما في الخمر فواضح ، وأما في الميسر فلأن الفائز ينسى ببطر الغلبة ، والخائب مغمور بهمه ، وأعظم التهديد بالاستفهام والجملة الاسمية الدالة على الثبات بعد التأكيد بالحصر والضم إلى فعل الجاهلية وبيان الحِكَم الداعية إلى الترك والشرور المنفرة عن الفعل فقال : { فهل أنتم منتهون * } أي قبل أن يقع بكم ما لا تطيقون . ولما كان ذلك مألوفاً لهم محبوباً عندهم ، وكان ترك المألوف أمرّ من ضرب السيوف ، أكد دعوتهم إلى اجتنابه محذراً من المخالفة بقوله عاطفاً على ما تقديره : فانتهوا : { وأطيعوا الله } أي الملك الأعلى الذي لا شريك له ولا أمر لأحد سواه ، أي فيما أمركم به من اجتناب ذلك ، وأكد الأمر بإعادة العامل فقال : { وأطيعوا الرسول } أي الكامل في الرسلية في ذلك ، وزاد في التخويف بقوله : { واحذروا } أي من المخالفة ، ثم بلغ الغاية في ذلك بقوله : { فإن توليتم } أي بالإقبال على شيء من ذلك ، وأشار بصيغة التفعل إلى أن ذلك إنما يعمل بمعالجة من النفس للفطرة الأولى ، وعظم الشأن في ابتداء الجزاء بالتنبيه بالأمر بالعلم فقال : { فاعلموا } أنكم لم تضروا إلا أنفسكم ، لأن الحجة قد قامت عليكم ، ولم يبق على الرسول شيء لأنكم علمتم { أنما على رسولنا } أي البالغ في العظمة مقداراً يجل عن الوصف بإضافته إلينا { البلاغ المبين * } أي البين في نفسه الموضح لكل من سمعه ما يراد منه لا غيره ، فمن خالف فلينظر ما يأتيه من البلاء من قِبَلنا ، وهذا ناظر إلى قوله : { بلغ ما أنزل إليك من ربك } [ المائدة : 67 ] فكأنه قيل : ما عليه إلا ما تقدم من إلزامنا له به من البلاغ ، فمن اختار لنفسه المخالفة كفر ، و الله لا يهدي من كان مختاراً لنفسه الكفر .