Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 117-119)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان المقام للعلم الكاشف للحقائق المبين لما يتبع وما يجتنب ، قال معللاً لهذا الإخبار : { إن ربك } أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب الكاشف للارتياب الهادي إلى الصواب { هو } أي وحده { أعلم } ولكون الحال شديد الاقتضاء للعلم ، قطعه عما بعده ليسبق إلى الفهم أنه أعلم من كل من يتوهم فيه العلم مطلقاً ثم قال : { من } أي يعلم من { يضل } أي يقع منه ضلال يوماً ما { عن سبيله } أي الذي بينه بعلمه { وهو } أي وحده { أعلم بالمهتدين * } كما أنه أعلم بالضالين ، فمن أمركم باتباعه فاتبعوه ، ومن نهاكم عنه فاجتنبوه ، فمن ضل أرداه ، ومن اهتدى أنجاه ، فاستمسكوا بأسبابه حذراً من وبيل عقابه يوم حسابه . ولما قدم سبحانه ما مضى من السوائب وما معها وفي المائدة مما يدين به أهل الجاهلية في أكل الحيوان الذي جر إليه الشرك ، وأتبعه بيان أنه لا ضرر على أهل الإيمان من دين أهل الضلال إذا اهتدوا ، وأتبع ذلك ما لاءمه ، وانتظم في سلكه ولاحمه ، حتى ظهر أي ظهور أن الكل مِلكه ومُلكه ، وأنه لا شريك له ، فوجب شكره وحده ، وكانوا مع ذلك قد كفروا نعمه تتعالى فاتخذوا معه شركاء ولم يكفهم ذلك حتى جعلوا لها مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، فكانوا بذلك المانعين الحق عن أهله ، ومانحين ما خولهم فيه من له الملك لما لا يملك ضراً ولا نفعاً ، وتاركين بعض ما أنعم عليهم به صاحب الحق رعاية لمن لا حق له ولا حرمة ، وكانت سنة الله تعالى قد جرت بأنه يذكر نفسه الشريفة بالوحدانية . ويستدل على ذلك بخلق السماوات والأرض وما أودع فيهما لنا من المنافع وما أبدع من المرافق والمصانع ، ثم يعجب ممن أشرك به ، ثم يأمر بالأكل مما خلق تذكيراً بالنعمة ، ليكون ذلك داعية لكل ذي لب إلى شكره ، كما قال تعالى في البقرة عقب { وإلهكم إله واحد } { إن في خلق السماوات والأرض } [ البقرة : 164 ] ثم قال { ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً } [ البقرة : 165 ] ثم قال { يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً } [ البقرة : 168 ] ؛ أجرى هذه السنة الجليلة في هذه السورة أيضاً ، فقال : { إن الله فالق الحب والنوى } [ الأنعام : 95 ] بعد { إني وجهت وجهي للذي فطر } [ الأنعام : 79 ] ثم { وجعلوا لله شركاء الجن } [ الأنعام : 100 ] ودل على أنه لا شريك له في مِلكه ولا مُلكه ، وختم بأنه لا حكم سواه ينازعه في حكمه أو يباريه في شيء من أمره ، وبين أن من آيها الهداية التي جعلها شرطاً لعدم ضرر يلحق من دين أهل الشرك ؛ فسبب عن جميع ما ذكرت قوله : { فكلوا مما ذكر } أي وقت الذبح { اسم الله } أي الملك الذي له الإحاطة الكاملة فله كل شيء { عليه } أي كأن قائلاً لذلك سواء ذكر بالفعل أولا ، وعدل عن التعبير بما جعلته المراد ليفهم أن الذكر بالفعل مندوب إليه ، ولا يكونوا ممن بنى دينه على اتباع الأهوية والظنون الكاذبة ، فكأنه قيل : اتبعوا من يعرف الحق لأهله فإنه مهتد غير معرجين على غيره فإنه ضال ، والله أعلم بالفريقين ، فكونوا من المهتدين ، فكلوا مما خلق الله لكم حلالاً شاكرين لنعمته ، وإنما أطال هنا دون البقرة ما بين الجمل الكلام تقريراً لمضامينها وما يستتبعه واحتجاجاً على جميع ذلك لأنها سورة التفصيل ، وأتى بالذكر والمراد قبول المأكول له ، أي كلوا مما يقبل أن يسمى عليه على مقتضى ما شرعه ، وذلك هو الذي أحله من الحيوان وغيره سواء كان مما جعلوه لأوثانهم أولا ، دون ما مات من الحيوان حتف أنفه ، أو ذكر عليه اسم غير الله أو كان مما حرم أكله وإن ذبح وذكر عليه اسم الله ، فإنه لا يقبل التحليل بالتسمية ، فالتسمية في غير موضعها ، لورود النصوص بالتحريم ، ولا تتبعوا المشركين في منعهم أنفسهم من خير مما خلق الله لهم من الحرث والأنعام بتسميتهم إياه لآلهتهم التي لا غناء عندها ، ويكون ذلك حثاً على التسمية على جميع المأكول الحلال ، فتكون الآية كآية البقرة بزيادة . ولما كان هذا الأمر لا يقبله إلا من زال دين الشرك وجميع توابعه من قبله ؛ قال : { إن كنتم } أي بما لكم من الجِِبِلَّة الصالحة { بآياته } أي عامة التي منها آيات التحليل والتحريم { مؤمنين * } أي عريقين في وصف الإيمان ، وقد لاح بذلك حسن انتظام قوله : { وما لكم } أي أيّ شيء يكون لكم في { ألا تأكلوا مما ذكر } أي يقبل أن يذكر { اسم الله } أي الذي له كل شيء { عليه } فإن التسمية قائمة مقام إذنه { وقد } أي والحال أنه قد { فصل لكم } أي من قبل ذلك والخلق خلقه والأمر أمره { ما حرم عليكم } أي مما لم يحرم تفصيلاً واضح البيان ظاهر البرهان { إلا ما اضطررتم إليه } أي فإن الضرورة تزيل التفصيل عنه برده إلى ما كان عليه قبل التفصيل ؛ فيصير الكل حلالاً لا تفصيل فيه ، والمراد في هذه الآية مختلف باختلاف المخاطبين ، فأما من خوطب بها وقت الإنزال فالمراد بالتفصيل الذي آتاه الآية الآتية أخير هذه فإنها نزلت جملة ، وكذا كل ما شاكلها مما أنزل بمكة قبل هذه السورة ، وكذا ما أخبر به صلى الله عليه وسلم في وحي متلو إذ ذاك ، ولعله نسخت تلاوته وبقي حكمه ، أو وحي غير متلو من جميع الأحاديث التي تقدمت على هذه السورة ، وأما من خوطب بها بعد ترتيبه على هذا الوجه فالمراد في حقه كما في البقرة والمائدة وغيرهما من السور الماضية - من الحلال والحرام . ولما كان التقدير : من عمل بهذه الأوامر اهتدى بما نال من العلم وهم قليل ، عطف عليه قوله : { وإن كثيراً } أي من الناس { ليضلون } أي يقع منهم الضلال فيوقعون غيرهم فيه بنكوبهم عما دعت إليه أوامر الله وهدى إليه بيانه ، فيكونون بمعرض العطب { بأهوائهم } أي بسبب اتباعهم للهوى ؛ ولما كان الهوى - وهو ميل النفس - ربما كان موافقاً لما أدى إليه العم بصحيح الفكر وصريح العقل قال : { بغير علم } أي دعا إلى ذلك ممن له العلم من شريعة ماضية ممن له الأمر . ولما كانوا ينكرون هذا ، أثبت لنفسه الشريفة ما هو مسلم عند كل أحد وقال دليلاً على صحة ما أخبر به : { إن ربك } أي المحسن إليك بإنزال هذا الكتاب شاهداً لك بإعجازه بالتصديق { هو } أي وحده { أعلم } وكان الموضع للإضمار فأظهر للتعميم والتنبيه على الوصف الذي أوجب لهم ذلك فقال : { بالمعتدين * } أي الذين يتجاوزون الحدود مجتهدين في ذلك .