Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 14-17)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما نهض من الحجج ما لم يبق معه لذي بصيرة شك ، كان لسان الحال مقتضياً لأن ينادي بالإنكار عليهم في الالتفات عن جنابه والإعراض عن بابه فأبرز تعالى ذلك في قالب الأمر له صلى الله عليه وسلم بالإنكار على نفسه ، ليكون أدعى لهم وأرفق بهم ، ولأن ما تقدم منبئ عن غاية المخالفة ، منذر بما أنذر من سوء عاقبة المشاققة ، فكأنهم قالوا : فهل من سبيل إلى المواقة ؟ فقيل : لا إلا باتخاذكم إلهي ولياً ، وذلك لعمري سعادتكم في الدارين ، وبتطمعكم في اتخاذي أندادكم أولياء ، وهذا ما لا يكون أبداً ، وهو معنى قوله تعالى : { قل } أي مصرحاً لهم بإنكار أن تميل إلى أندادهم بوجه . ولما كان الإنكار منصباً إلى كون الغير متخذاً ، لا إلى اتخاذ الولي ، أولى " غير " الهمزة فقال : { أغير الله } أي الذي لا شيء يدانيه في العظمة { أتخذ } أي أكلف نفسي إلى خلاف ما تدعو إليه الفطرة الأولى والعقل المجرد عن الهوى كما فعلتم أنتم وآخذ { ولياً } أي أعبده لكونه يلي جميع أموري ، ثم وصفه بما يحقق ولايته ويصرف عن ولاية غيره فقال : { فاطر السماوات والأرض } أي خالقهما ابتداء على غير مثال سبق { وهو } أي والحال أن الله { يطعم } أي يرزق كل من سواه مما فيه روح . ولما كان المنفي كونه سبحانه مفعولاً من الطعم ، لا كون ذلك من مطعم معين ، بني للمفعول قوله : { ولا يطعم } أي ولا يبلغ أحد بوجه من الوجوه أن يطعمه ، والمعنى أن المنافع من عنده ، ولا يجوز عليه الانتفاع ، فامتنع في العقل اتخاذ غيره ولياً ، لأن غيره محتاج في ذاته وفي جميع صفاته إليه ، وهو سبحانه الغني على الإطلاق ، وهذا التفات إلى قوله تعالى : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام } [ المائدة : 75 ] وتعريض بكل ما عبد من دون الله ولا سيما الأصنام ، فإنهم كانوا يهدون لها الأطعمة فتأكلها الدواب والطيور ، فمعلوم أنها لا تطعم ولا تطعم روى الدارمي في أول مسنده بسند حسن عن الأعمش عن مجاهد قال : " حدثني مولاي أن أهله بعثوا معه بقدح فيه زبد ولبن إلى آلهتهم ، قال : فمنعني أن آكل الزبد مخافتها ، فجاء كلب فأكل الزبد وشرب اللبن ثم بال على الصنم " ومولاه كان شريك النبي صلى الله عليه وسلم قبل الإسلام ، واختلف فيه فقيل : هو قيس بن السائب بن عويمر بن عائذ بن عمران بن مخزوم ، وقيل : قريبه السائب بن أبي السائب صيفي بن عائذ بن عبد الله بن عمر بن مخروم . وقيل : ابنه عبد الله بن السائب - والله أعلم ؛ وله عن أبي رجاء - هو العطاردي وهو مخضرم - قال : " كنا في الجاهلية إذا أصبنا حجراً حسناً عبدناه ، وإن لم نصب حجراً جمعنا كثبة من رمل ، ثم جئنا بالناقة الصفي فنفاج عليها فنحلبها على الكثبة حتى نرويها ، ثم نعبد تلك الكثبة ما أقمنا بذلك المكان " وفيه أيضاً إيماء إلى أنه كما خلقكم كلكم من طين على اختلافكم في المقادير والألوان والأخلاق وهو غني عنكم ، فكذلك خلق المطعومات على اختلاف أشكالها وطعومها ومنافعها وألوانها من طين ، وجعلها منافع لكم وهو غني عنها ، وسيأتي التصريح بذلك في قوله : { وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء } [ الأنعام : 99 ] المستوفي في مضماره { فكلوا مما ذكر اسم الله عليه } [ الأنعام : 118 ] وفي الآية كلها التفات إلى قوله أول السورة { ثم الذين كفروا بربهم يعدلون } [ الأنعام : 1 ] وقوله في التي قبلها { ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي وما أنزل إليه ما اتخذوهم أولياء } [ المائدة : 81 ] في أمثالها مما فيه تولي الكفار لغير خالقهم سبحانه وتعالى ، هذا لو لم يرد أمر من قبل الخالق كان النظر السديد كافياً في التنزه عنه ، كما كنت قبل النبوة لا ألتفت إلى أصنامكم ولا أعتبر للعبادة شيئاً من أنصابكم ، فكيف وقد أمرت بذلك ! وهو معنى { قل إني أمرت } أي من جهة من له الأمر ، ولا أمر إلا له وهو من تقدم أن له كل شيء ، وهو الله وحده { أن أكون } أي بقلبي وقالبي { أول من أسلم } في الرتبة مطلقاً ، وفي الزمان بالنسبة إلى الأمة . ولما كان الأمر بالإسلام نهياً عن الشرك ، لم يكتف به ، بل صرح به جمعاً بين الأمر والنهي من هذا الرب الكريم الذي يدعو إحسانه وكرمه إلى ولايته ، وينهى تمام ملكه وجبروته عن شيء من عداوته ، في قوله عطفاً على { قل } على وجه التأكيد : { ولا تكونن } أي بوجه من الوجوه في وقت من الأوقات أصلاً { من المشركين * } أي في عدادهم باتباعهم في شيء من أغراضهم ، وهذا التأكيد لقطع أطماعهم عنه صلى الله عليه وسلم في سؤالهم أن يطرد بعض أتباعه ليوالوه ، ونحو ذلك مما كانوا يرجون مقاربته منهم به ، إعلاماً بأن فعل شيء مما يريدون مصحح للنسبة إليهم والكون في عدادهم " من تشبه بقوم فهو منهم " . ولما كان فعل المنهي قد لا يعذب عليه ، قال معلماً بأن المخالفة في هذا من أبلغ المخالفات ، فصاحبها مستحق لأعظم الانتقام ، وكل ذلك فطماً لهم عن الطمع فيه ، وأكده لذلك ولإنكارهم مضمونه : { قل إني } ولما كان المقام للخوف ، قدمه فقال : { أخاف إن عصيت } أي شيء مما تريدون مني أن أوافقكم فيه بما أمرت به أو نهيت عنه { ربي } أي المحسن إليّ { عذاب يوم } ولما كان عظم الظرف بعظم مظروفه قال : { عظيم * } . ولما كان قد قدم من عموم رحمته ما أطمع الفاجر ثم أيأسه من ذلك بما أشير إليه من الخسارة ، صرح هنا بما اقتضاه ذلك المتقدم ، فقال واصفاً لذلك العذاب مبيناً أن الرحمة في ذلك اليوم على غير المعهود الآن ، فإنها خاصة لا عامة دائمة السبوغ على من نالته ، لا زائلة وكذا النعمة ، هكذا شأن ذلك اليوم { من يصرف عنه } أي ذلك العذاب ؛ ولما كان المراد دوام الصرف في جميع اليوم ، قال : { يومئذ } أي يوم إذ يكون عذاب ذلك اليوم به { فقد رحمه } أي فعل به بالإنعام عليه فعل المرحوم { وذلك } أي لا غيره { الفوز } أي الظفر بالمطلوب { المبين * } أي الظاهر جداً ، ومن لم يصرف عنه فقد أهانه ، وذلك هو العذاب العظيم . ولما كان التقدير : فإن يصرف عنك ذلك العذاب فقد قرت عينك ، عطف عليه دليلاً آخر لأنه لا يجوز في العقل أن يتخذ غيره ولياً ، فقال معمماً للحكم في ذلك العذاب وغيره مبيناً أنه لا مخلص لمن أوقع به : { وإن يمسسك الله } أي الملك الأعظم الذي لا كفوء له ؛ ولما كان المقام للترهيب ، قدم قوله : { بضر } أي هنا أو هناك { فلا كاشف له } أصلاً بوجه من الوجوه { إلا هو } أي لأنه لا كفوء له ، فهو قادر على إيقاعه ، ولا يقدر غيره على دفاعه ، لأنه على كل شيء قدير { وإن يمسسك بخير } أي في أي وقت أراد . ولما كان القياس على الأول موجباً لأن يكون الجزاء : فلا مانع له ، كان وصفه من صفة قوله { فهو على كل شيء } أي من ذلك وغيره { قدير * } ولا يقدر غيره على منعه ، منبهاً على أن رحمته سبحانه سبقت غضبه .