Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 31-34)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما أنتج هذا ما تقدم الإخبار به عن خسرانهم لأنفسهم في القيامة توقع السامع ذكره ، فقال تحقيقاً لذلك ، وزاده الحمل فإنه من ذوق العذاب : { قد خسر } وأظهر موضع الإضمار تعميماً وتنبيهاً على ما أوجب لهم ذلك فقال : { الذين كذبوا بلقاء الله } أي الملك الأعلى الذي له الأمر كله ، ولا أمر لأحد معه ، قد خسروا كل شيء يمكن إحرازه من الثواب العظيم واستمر تكذيبهم { حتى إذا جاءتهم الساعة } أي الحقيقة ، وكذا الموت الذي هو مبدأها فإن من مات جاءت ساعته ، وحذرهم منها بقوله : { بغتة } أي باغتة ، أو ذات بغتة ، أو بغتتهم بإتيانها على حين غفلة ، لا يمكن أن يشعروا بعين الوقت الذي تجيء فيه نوعاً من الشعور { قالوا يا حسرتنا } أي تعالى احضرينا أيها الحسرة اللائقة بنا في هذا المقام ! فإنه لا نديم لنا سواك ، وهو كناية عن عظمة الحسرة وتنبيه عليه ، لينتهي الإنسان عن أسبابها { على ما فرطنا } أي قصرنا { فيها } أي بسبب الساعة ، ففاتنا ما يسعد فيها من تهذيب الأخلاق المهيئة للسباق بترك اتباع الرسل ، وذلك أن الله خلق المكلف وبعث له النفس الناطقة القدسية منزلاً لها إلى العالم السفلي ، وأفاض عليه نعماً ظاهرة وهي الحواس الظاهرة المدركة والأعضاء والآلات الجثمانية ، ونعماً باطنة وهي العقل والفكر وغيرهما ، ليتوسل باستعمال هذه القوى والآلات إلى تحصيل المعارف الحقيقية والأخلاق الفاضلة التي تعظم منافعها بعد الموت ، وبعث الأنبياء عليهم السلام للهداية وأظهر عليهم المعجزات ليصدقوا ، فأعرضوا عما دعوا إليه من تزكية النفس ، وأقبلوا على استعمال الآلات والقوى في اللذات والشهوات الفانية ففاتت الآلات البدنية التي هي رأس المال ، وما ظنوه من اللذات التي عدوها أرباحاً فات ففقدوا الزاد ، ولم يهيئوا النفوس للاهتداء ، فلا رأس مال ولا ربح ، فصاروا في غاية الانقطاع والغربة ، ولا خسران أعظم من هذا . ولما كان هذا أمراً مفظعاً ، زاد في تفظيعه بالإخبار في جملة حالية بشدة تعبهم في ذلك الموقف ووهن ظهورهم بذنوبهم ، حتى كأن عليهم أحمالاً ثقالاً فقال : { وهم } أي وقالوا ذلك والحال أنهم { يحملون أوزارهم } أي أحمال ذنوبهم التي من شأنها أن يثقل ، وحقق الأمر وصوره بقوله : { على ظهورهم } لاعتقاد الحمل عليه ، كما يقال : ثقل عليك كلام فلان ، ويجوز أن يجسد أعمالهم أجساداً ثقالاً ، فيكلفوا حملها ؛ ولما كان ذلك الحمل أمراً لا يبلغ الوصف الذي يحتمله عقولنا كل حقيقة ما هو عليه من البشاعة والثقل ، أشار إلى ذلك بقوله جامعاً للمذام : { ألا ساء ما يزرون * } . فلما تأكد أمر البعث غاية التأكد ، ولم يبق فيه لذي لب وقفة ، صرح بما اقتضاه الحال من أمر هذه الدار ، فقال منبهاً على خساستها معجباً منهم في قوة رغبتهم في إيثار لذاذتها ، معلماً بأنه قد كشف الحال عن أن ما ركنوا إليه خيال ، وما كذبوا به حقيقة ثابتة ليس لها زوال ، عكس ما كانوا يقولون : { وما الحياة الدنيا } . ولما كان السياق للخسارة ، وكانت أكثر ما تكون من اللعب - وهو فعل ما يزيد سرور النفس على وجه غير مشروع ، ويسرع انقضاؤه - قدمه فقال : { إلا لعب ولهو } أي للأشقياء ، وللحياة الدنيا شر للذين يلعبون ، واللهو ما من شأنه أن يعجب النفس كالغناء والزينة من المال والنساء على وجه لم يؤذن فيه ، فيكون سبباً للغفلة عما ينفع ، فتأخيره إشارة إلى أن الجهلة كلما فتروا في اللعب وهو اشتغال بالأمور السافلة والشواغل الباطلة بعلو النفوس أثاروا الشهوات بالملاهي ، والمعنى أنه تحقق من هذه الآيات زوال الدنيا ، فتحققت سرعته ، لأن كل آتٍ قريب ، فحينئذ ما هي إلا ساعة لعب ، يندم الإنسان على ما فرط فيها ، كما يندم اللاعب - إن كان له عقل - على تفويت الأرباح إذا رأى ما حصل أولو الجد وأرباب العزائم . ولما كان التقدير بما أرشد إليه المعنى : وما الدار الآخرة إلا جد وحضور وبقاء للأتقياء ، أتبعه قوله مؤكداً : { وللدار الآخرة خير } ولما كان الكل مآلهم إلى الآخرة ، خصص فقال : { للذين يتقون } أي يوجدون التقوى ، وهي الخوف من الله الذي يحمل على فعل الطاعات وترك المعاصي ، ليكون ذلك وقاية لهم من غضب الله ، فذكر حال الدنيا وحذف نتيجتها لأهلها لدلالة ثمرة الآخرة عليه وحذف ذكر حال الآخرة لدلالة ذكر حال الدنيا عليه ، فهو احتباك ؛ ولما كان من شأن العقلاء الإقبال على الخير وترك غيره ، تسبب عن إقبالهم على الفاني وتركهم الباقي قوله منكراً : { أفلا تعقلون * } . ولما كرر في هذه السورة أمره بمقاولتهم ، وأطال في الحث على مجادلتهم ، وختم بما يقتضي سلبهم العقل مع تكرير الإخبار بأن المقضي بخسارته منهم لا يؤمنون لآية من الآيات ، وكان من المعلوم أنهم حال إسماعهم ما أمر به لا يسكتون لما عندهم من عظيم النخوة وشماخة الكبر وقوة الجرأة ، وأنه لا جواب لهم إلا التبعة والبذاءة كما هو دأب المعاند المغلوب ، وأن ذلك يحزنه صلى الله عليه وسلم لما جبل عليه من الحياء والشهامة والصيانة والنزاهة ، كان الحال محتاجاً إلى التسلية فقال تعالى : { قد نعلم } والمراد بالمضارع وجود العلم من غير نظر إلى زمان ، وعدل عن الماضي لئلا يظن الاختصاص به ، فالمراد تحقق التجدد لتعلق العلم بتجدد الأقوال { إنه ليحزنك } أي يوقع على سبيل التجديد والاستمرار لك الحزن على ما فاتك من حالات الصفاء التي كدرها { الذي يقولون } أي من تكذيبك ، فقد علمنا امتثالك لأوامرنا في إسماعهم ما يكرهون من تنزيهنا ، وعلمنا ردهم عليك بما لا يرضيك ، وعلمنا أنه يبلغ منك ، فلا تحزن لأن من علم أن ربه يرضي المطيع له ويجزي عاصيه ، وهو عالم بما ينال المطيع في طاعته لا ينبغي أن يحزن بل يسر ، وهو كقوله تعالى في سورة يسۤ { فلا يحزنك قولهم إنا نعلم ما يسرون وما يعلنون } [ يسۤ : 76 ] ولا شك أن الحزن عند وقوع ما يسوء من طبع البشر الذي لا يقدر على الانفكاك عنه ، فالنهي عنه إنما هو نهي عما ينشأ عنه من الاسترسال المؤدي إلى الجزع المؤدي إلى عدم الصبر ونسيان ما يعزي ، فهو من النهي عن السبب للمبالغة في النهي عن المسبب ، وما أنسب ذكر ما يحزن بعد تقرير أن الدنيا لأهلها لعب ولهو وأن الآخرة خير للمتقين ، ومن المعلوم أنهما ضدان ، فلا تنال إحداهما إلاّ بضد ما للأخرى ، فلا تنال الآخرة إلا بضد ما لأهل الدنيا من اللعب واللهو ، وذلك هو الحزن الناشئ عن التقوى الحامل عليها الخوف كما روي في حديث قدسي " أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلي " . ولما أخبره سبحانه بعلمه بذلك ، سبب عنه قوله : { فإنهم } أي فلا يحزنك ذلك فإنهم { لا يكذبونك } بل أنت عندهم الأمين ، وليكن علمنا بما تلقى منهم سبباً لزوال حزنك ، وكذا إخبارنا لك بعدم تكذيبهم لك ، بل أنت عندهم في نفس الأمر أمين غير متهم ولكنهم لشدة عنادهم ووقوفهم مع الحظوظ وعجزهم عن جواب يبرد غللهم ويشفي عللهم ينكرون آيات الله مع علمهم بحقيتها ، فليخفف حزنك لنفسك ما انتهكوه من حرمة من أرسلك ، والآية من الاحتباك : حذف من الجملة الأولى - إظهاراً لشرف النبي صلى الله عليه وسلم وأدباً معه - سبب الحزن ، وهو التكذيب لدلالة الثانية عليه ، ومن الثاني النهي عن المسبب لدلالة الأولى عليه ؛ روى الطبري في تفسيره عن السدي أنه لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة إن محمداً ابن أختكم ، وأنتم أحق من كف عنه ، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته ، قفوا هاهنا حتى ألقى أبا الحكم ، فإن غَلِب محمد رجعتم سالمين ، وإن غَلَب محمد فإن قومكم لن يصنعوا بكم شيئاً ، فيومئذ سمي " الأخنس " ، وكان اسمه " أبي " ، فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس به فقال : يا أبا الحكم ! أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا ، فقال أبو جهل : ويحك ! والله إن محمداً لصادق ، وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة فماذا يكون لسائر قريش ! وعن ناجية قال قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : ما نتهمك ولكن نتهم الذي جئت به ، فأنزل الله الآية وعلى ذلك يدل قوله تعالى : { ولكن } ، وقال : { الظالمين } في موضع الضمير تعميماً وتعليقاً للحكم بالوصف ، اي الذين كانوا في مثل الظلام { بآيات } أي بسبب آيات { الله } أي الملك الأكبر الذي له الكمال كله { يجحدون * } قال أبو علي الفارسي في أول كتاب الحجة : أي يجحدون ما عرفوه من صدقك وأمانتك ، وعلق باء الجر بالظالمين كما هي في قوله { وآتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها } [ الإسراء : 59 ] ونحوها ، وقال ابن القطاع في كتاب الأفعال : جحد الشيء جحداً وجحوداً : أنكره وهو عالم به . هذا قصدهم غير أنه لا طريق لهم إلا إنكار الآيات إلا بالتكذيب ، أو ما يؤول إليه ، وأنت تعلم أن الذي أرسلك على كل شيء قدير ، وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير ، فاقتضت قدرته وقهره وانتصاره لأهل ولايته وجبره أن يحل بأعدائهم سطوة تجل عن الوصف ، واقتضت حكمته عدم المعاجلة بها تشريفاً لك وتكثيراً لأمتك . ولما سلاه بوعده النصرة المسببة عن علم المرسل القادر ، وبأن تكذيبهم إنما هو له سبحانه ، وهو مع ذلك يصبر عليهم ويحلم عنهم ، بل ويحسن إليهم بالرزق والمنافع ، زاده أن ذلك سنة في إخوانه من الرسل فقال : { ولقد } ولما كان المنكي هو التكذيب لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : { كذبت رسل } . ولما كان تكذيبهم لم يستغرق الزمان ، وكان الاشتراك في شيء يهوّنه ، وكلما قرب الزمان كان أجدر بذلك أدخل الجار فقال : { من قبلك } بأن جحد قومهم ما يعرفون من صدقهم وأمانتهم كما فعل بك { فصبروا } أي فتسبب عن تكذيب قومهم لهم أنهم صبروا { على ما كذبوا وأوذوا } أي فصبروا أيضاً على ما أوذوا ، ثم أشار إلى الوعد بالنصر بشرط الصبر فقال : { حتى } أي وامتد صبرهم حتى { آتاهم نصرنا } أي فليكن لك بهم أسوة ، وفيهم مسلاة ، فاصبر حتى يأتيك النصر كما أتاهم ، فقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين أنهم لهم المنصورون في قولنا { فإن حزب الله هم الغالبون } [ المائدة : 56 ] { ولا مبدل لكلمات الله } أي لأن له جميع العظمة فلا كفوء له ، ودل سبحانه على صعوبة مقام الصبر جداً بالتأكيد فقال : { ولقد جاءك } ودل على عظيم ما تحملوا بقوله : { من نبإى المرسلين * } أي خبرهم العظيم في صبرهم واحتمالهم وطاعتهم وامتثالهم ورفقهم بمن أرسلوا إليهم ونصرنا لهم على من بغى عليهم ، ومجيء نبأهم تقدم إجمالاً وتفصيلاً ، أما إجمالاً ففي مثل قوله { وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير } [ آل عمران : 146 ] ، { أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم } [ البقرة : 87 ] وأما تفصيلاً ففي ذكر موسى وعيسى وغيرهما ؛ وفي قوله { فصبروا } أدل دليل على ما تقدم من أن النهي عن الحزن نهي عن تابعه المؤدي إلى عدم الصبر ، والتعبير بمن التبعيضية تهويل لما لقوا ، فهو أبلغ في التعزية .