Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 6, Ayat: 42-45)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما أقام لهم بهذه الآية على توحيده الدليل حتى استنارت السبل في تذكيرهم أن التضرع قد يكشف به البلاء ، أخبرهم أن تركه يوجب الشقاء ، ترغيباً في إدامته وترهيباً من مجانبته فقال : { ولقد أرسلنا } أي بما لنا من العظمة { إلى أمم } أي أناس يؤم بعضهم بعضاً ، وهم أهل لأن يقصدهم الناس ، لما لهم من الكثرة والعظمة . ولما كان المراد بعض الأمم ، وهم الذين أراد الله إشهادهم وقص أخبارهم ، أدخل الجار فقال : { من قبلك } أي رسلاً فخالفوهم ، وحسّن هذا الحذف كونه مفهوماً { فأخذناهم } أي فكان إرسالنا إليهم سبباً لأن أخذناهم بعظمتنا ، ليرجعوا عما زين لهم الشيطان إلى ما تدعوهم إليه الرسل { بالبأساء } من تسليط القتل عليهم { والضراء } بتسليط الفقر والأوجاع { لعلهم يتضرعون * } أي ليكون حالهم حال من يرجى خضوعه وتذلـله على وجه بليغ ، بما يرشد إليه - مع صيغة التفعيل - الإظهار ، ولأن مقصودها الاستدلال على التوحيد ، وعند الكشف للأصول ينبغي الإبلاغ في العبادة ، بخلاف ما يأتي في الأعراف . ولما لم يقع منهم ما أوجبت الحال رجاءه ، تسبب عنه الإنكار عليهم ، فقال معبراً بأداة التخصيص ليفيد مع النفي أنهم ما كان لهم عذر في ترك التضرع : { فلولا } أي فهلا { إذ جاءهم بأسنا تضرعوا } ولما كان معنى الإنكار أنهم ما تضرعوا قال : { ولكن قست قلوبهم } أي فلم يذكروا ربهم أصلاً { وزين لهم الشيطان } أي بما دخل عليهم به من باب الشهوات { ما كانوا يعملون * } من العظائم والمناكر التي أوجبها النكس بالرد أسفل سافلين { فلما نسوا ما ذكروا به } أي فتسبب - عن تركهم التذكير والأخذ بفائدته التي هي التخشع والتسكن ، كما هو اللائق بهم لا سيما في تلك الحالة - أنا { فتحنا } أي بما يليق بعظمتنا { عليهم أبواب كل شيء } أي من الخيرات والأرزاق والملاّد التي كانت مغلقة عنهم ونقلناهم من الشدة إلى الرخاء ، وذلك استدراجاً لهم ، ومددنا زمانه وطوّلنا أيامه { حتى إذا فرحوا } أي تناهى بهم الفرح { بما أوتوا } أي معرضين عمن آتاهم هذا الرخاء بعد أن كان ابتلاهم بذلك ، فعلم أنهم في غاية من الغباوة ، لا يرتدعون بالتأديب بسياط البلاء ، ولا ينتفعون ببساط المنة والرخاء ، بل ظنوا أن البلاء عادة الزمان ، والرخاء باستحقاقهم الامتنان ، فعلم أن قلوبهم لا يرجى لها انتباه بحار ولا بارد ولا رطب ولا يابس { أخذناهم } بعظمتنا ، وإنما أخذناهم في حال الرخاء ليكون أشد لتحسرهم { بغتة } فلم نمكنهم من التضرع عند خفوق الأمر ، ولا أمهلناهم أصلاً بل نزل عليهم من أثقال العذاب ، وأباح بهم من أحمال الشدائد وصروف البلايا ما أذهلهم وشغلهم عن كل شيء حتى بهتوا { فإذا هم مبلسون * } أي تسبب عن ذلك البغت أن فاجؤوا السكوتَ على ما في أنفسهم واليأس تحسراً وتحيراً ، و استمروا بعد أن سكتوا إلى أن همدوا وخفتوا ، ففي نفي التضرع عن المتقدمين بعد أن أثبته لمشركي هذه الأمة استعطاف لطيف ، وفي ذكر استدراج أولئك بالنعم عند نسيان ما ذكروا به إلى ما أخذهم بغتة من قواصم النقم غاية التحذير . ولما كان من عادة الغالب من أهل الدنيا أن يفوته آخر الجيوش وشُذّابهم لملل أصحابه من الطلب وضجرهم من النصب والتعب وقصورهم عن الإحاطة بجميع الأرب ، أخبر تعالى أن أخذه على غير ذلك ، وأن نيله للآخر كنيله للأول على حد سواء ، فقال مسبباً عن الأخذ الموصوف مشيراً بالبناء للمفعول إلى تمام القدرة ، وبالدابر إلى الاستئصال : { فقطع دابر } أي آخر { القوم الذين ظلموا } أي بوضع الشيء في غير موضعه دأب الماشي في الظلام ، وضعوا لقسوة موضع الرقة التي تدعو إليها الشدة ، ووضعوا الفرح بالنعمة موضع الخشية من الرد إلى الشدة ، كما ظلمتم أنتم بدعاء الأصنام وقت الرخاء وكان ذلك موضع دعاء من أفاض تلك النعم ، ودعوتم الله وقت الشدة وكان ذلك موضع دعاء من عبدتموه وقت الرخاء ، لئلا تقعوا فيما جرت عادتكم بالذم به . @ وإن تكون كريهة أدعى لها وإذا يحاس الحيس يدعى جندب @@ ولما كان استئصالهم من أجل النعم على من عادوهم فيه من الرسل عليهم السلام وأتباعهم رضي الله عنهم ، نبه على ذلك بالجملة مع ما يشير إليه من ظهور الاستغناء المطلق فقال : { والحمد } أي قطع أمرهم كله والحال أن الإحاطة بأوصاف الكمال { لله } المتفرد بنعوت الجلال والجمال { رب العالمين * } الموجد لهم أجمعين ، أي له ذلك كله بعد فناء الخلق على أيّ صفة كانوا من إيمان أو كفر ، كما كان له ذلك قبل وجودهم وعند خلقهم على كل من حالتيهم - كما أشير إليه بأول السورة ، فكأنه قيل : الكمال لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، ثم الذين كفروا بربهم يعدلون ، فقطع دابرهم ، والكمال له لم يتغير ، لأنه لا يزيده وجود موجود ، ولا ينقصه فقد مفقود ، فهو محمود حال الإعدام والمحق كما كان محموداً حال الإيجاد والخلق ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، فإنه لا يخرج شيء عن إيمانهم ولا كفرانهم عن إرادته سبحانه ، فلا عليك منهم اقترحوا الآيات أولا ، فإنه ليس عليك إلا البلاغ .