Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 7, Ayat: 174-178)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما كان كأنه قيل تبيهاً على جلالة هذه الآيات : انظر كيف فصلنا هذه الآيات هذه التفاصيل الفائقة وأبرزناها في هذه الأساليب الرائقة ، قال : { وكذلك } أي ومثل ذلك التفصيل البديع الجليل الرفيع { نفصل الآيات } أي كلها لئلا يواقعوا ما لا يليق بجانبنا جهلاً لعدم الدليل { ولعلهم يرجعون * } أي ليكون حالهم حال من يرجى رجوعه عن الضلال إلى ما تدعو إليه الهداة من الكمال عن قرب إن حصلت غفلة فواقعوه ، وذلك من أدلة { والذي خبث لا يخرج إلا نكداً } [ الأعراف : 58 ] و { ما وجدنا لأكثرهم من عهد } [ الأعراف : 102 ] و { سأصرف عن آياتي } [ الأعراف : 146 ] . ولما ذكر لهم ما أخذ عليهم في كتابهم من الميثاق الخاص الذي انسلخوا منه ، واتبعه الميثاق العام الذي قطع بع الأعذار ، أتبعهما بيان ما يعرفونه من حال من انسلخ من الآيات ، فأسقطه الله من ديوان السعداء ، فأمره صلىالله عليه وسلم أن يتلو عليهم ، لأنه - مع الوفاء بتبكيتهم - من أدلة نبوته الموجبة عليهم اتباعه ، فذكره ما وقع له في نبذ العهد والانسلاخ من الميثاق بعد أن كان قد أعطى الآيات وأفرغ عليه من الروح فقال : { واتل } أي اقرأ شيئاً بعد شيء { عليهم } أي اليهود وسائر الكفار الخلق كلهم { نبأ الذي } وعظم ما أعطاه بمظهر العظمة ولفظ الإيتاء بعد ما عظم خبره بلفظ الإنباء فقال : { آتيناه } . ولما كان تعالى قد أعطاه من إجابة الدعاء وصحة الرؤيا وغير ذلك مما شاء سبحانه أمراً عظيماً بحيث دله تعالى دلالة لا شك فيها ، وكانت الآيات كلها متساوية الأقدام في الدلالة وإن كان بعضها أقوى من بعض ، قال تعالى : { آياتنا } وهو بلعام من غير شك للسباق واللحاق ، وقيل : وهو رجل بعثه موسى عليه السلام إلى ملك مدين فرشاه فتبع دينه فافتتن به الناس ، وقيل : هو أمية بن أبي الصلت الثقفي الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم " آمن شعره وكفر قلبه " قاله عبد الله بن عمرو وسعيد بن المسيب وزيد ابن أسلم ، وقيل : هو أبو عامر الراهب الذي سماه النبي صلى الله عليه وسلم الفاسق ، وقيل : نزلت في منافقي أهل الكتاب كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم فأنكروه . ولما كان الذي جرأهم على عظمته سبحانه ما أنعم عليهم به من إعطاء الكتاب ظناً منهم أنه لا يشقيهم بعد ذلك ، رهبهم ببيان أن الذي سبب له هذا الشقاء هو إيتاء الآيات فقال : { فانسلخ منها } أي فارقها بالكيلة كما تنسلخ الحية من قشرها ، وذلك بسبب أنه لما كان مجاب الدعوة سأله ملك زمانه الدعاء على موسى وقومه فامتنع فلم يزل يرغبه حتى خالف أمر الله اتباعاً لهوى نفسه ، فتمكن من الشيطان وأشار عليه أن يرسل إليهم النساء مزينات ويأمرهن أن لا يمتنعن من أحد ، فأشقاه الله ، وهذا معنى { فأتبعه الشيطان } أي فأدركه مكره فصار قريناً له { فكان } أي فتسبب عن إدراك الشيطان له أن كان { من الغاوين * } أي الضالين الراكبين هوى نفوسهم ، وعبر في هذه القصة بقوله : { اتل } دون { وأسألهم عن } [ الأعراف : 163 ] نحو ما مضى في القرية ، لأن هذا الخبر مما يحبون ذكره لأن سلخه من الآيات كان لأجلهم ، فهو شرف لهم ، فلو سألهم عنه لبادروا إلى الإخبار به ولم يتلعثموه فلا تكون تلاوته صلى الله عليه وسلم بعد ذلك لما أنزل في شأنه واقعاً موقع ما لو أخبرهم به قبل ، ولعل المقصود الأعظم من هذه الآية والتي قبلها الاستدلال على كذب دعواهم في قولهم { سيغفر لنا } [ الأعراف : 169 ] بما هم قائلون به ، فيكون من باب الإلزام ، وكأنه قيل : أنتم قائلون بأن من أشرك لا يغفر له لتركه ما نصب له من الأدلة حتى إنكم لتقولون { ليس علينا في الأميين سبيل } [ آل عمران : 75 ] لذلك ، فما لكم توسعون المغفرة لكم في ترك ما أخذ عليكم به الميثاق الخاص وقد ضيقتموها على غيركم في ترك ما أخذ عليهم به الميثاق العام ؟ ما ذلك إلا مجرد هوى ، فإن قلتم : الأمر في أصل التوحيد أعظم فلا يقاس عليه ، قيل لكم ؛ أليس المعبود قد حرم الجميع ؟ وعلى التنزل فمن المسطور في كتابكم أمر بلعام وأنه ضل ، وقد كان أعظم من أحباركم ، فإنا آتيناه الآيات من غير واسطة رسول ، وكان سبب هلاكه - كما تعلمون - وخروجه من ربقة الدين وإحلاله دمه مشورته على ملك زمانه بأن يرسل النساء إلى عسكر بني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن ، وذلك من الفروع التي هي أخف من باب الأموال ، فقد بحتم كذبكم في قولكم { سيغفر لنا } وأنكم لم تتبعوا فيه إلا الهوى كما تبعه بلعام فانظروا ما فعل به . ولما كان هذا السياق موهماً لمن لم يرسخ قدمه في الإيمان أن الشيطان له تأثير مستقل في الإغواء ، نفى ذلك غيره على هذا المقام في مظهر العظمة فقال : { ولو شئنا } أي أن نرفعه بها على ما لنا من العظمة التي من دنا ساحتها بغير إذن محق { لرفعناه } أي في المنزلة رفعة دائمة { بها } أي الآيات حتى لا يزال عاملاً بها . ولما علق الأمر بالمشيئة تنبيهاً على أنها هي السبب الحقيقي وإن ما لم يشأه سبحانه لا يكون ، وكان التقدير : ولكنا لم نشأ ذلك وشئنا له الكفر فأخلدناه - إلى آخره ، عبر عنه تعليماً للأدب في إسناد الخير إلى الله والشر إلى غيره وإن كان الكل خلقه حفظاً - لعقول الضعفاء من إيهام نقص أو إدخال لبس بقوله مسنداً نقصه إليه : { ولكنه أخلد } أي فعل فعل من أوقع الخلد - وهو الدوام - وأوجده { إلى الأرض } أي رمى بنفسه إلى الدنيا رمياً ، تهالكاً على ما فيها من الملاذ الحيوانية والشهوات النفسانية { واتبع } أي اتباعاً شديداً { هواه } فأعرض عن التمسك بما آتاه الله من الآيات مقدماً لداعي نفسه على داعي روحه ، لأن القلب الذي هو نتيجتهما في عالم الأمر له وجهان : وجه إلى الروح العلوي الروحاني الذي هو الأب ، وله الذكورة المناسبة للعلو ؛ ووجه إلى النفس التي هي الروح الحيواني التي هي الأم ولها المناسبة للأرض بالأنوثة وبأن أصلها من التراب الذي له الرسوب بوضع الجبلة فالتقدير : فحط نفسه حطّاً عظيماً ، لأنا لم نشأ رفعه بما أعطيناه من الآيات ، وإنما جعلناه وبالاً عليه ، فلا يغتر أحد بما أوتي من المعارف ، وما حاز من المفاخر واللطائف ، فإن العبرة بالخواتيم ، ولنا بعد ذلك أن نفعل ما نشاء . ولما كان هذا حاله ، تسبب عنه أن قال تعالى : { فمثله } أي مع ما أوتي من العلم في اتباعه لمجرد هواه من غير دليل بعد الأمر بمخالفة الهوى { كمثل الكلب } أي في حال دوام اللهث . ولما كان كأنه قيل : مثله في أيّ أحواله ؟ قال : في كونه { إن تحمل عليه } أي لتضربه { يلهث أو تتركه يلهث } فإن أوجب لك الحمل عليه ظن أن لهثه لما حاول من ذلك التعب ردك عنه لهثه في الدعة ، فتعلم حينئذ أنه ليس له سبب إلا اتباع الهوى ، فتابع الهوى مثل الكلب كما بين ، ومثال هذا المنسلخ الجاهل الذي لا يتصور أن يتبع غير الهوى ، لأنه يتبع الهوى مع إيتاء الآيات فبعد الانسلاخ منها أولى ، فقد وضح تشبيه مثله بمثل الكلب ، لا تشبيه مثله بالكلب ؛ وهذه القصة تدل على أن من كانت نعم الله في حقه أكثر ، كان بعده عن الله إذا أعرض عنه أعظم وأكبر . ولما تقرر المثلان ، وكان كل منهما منطبقاً على حالة كل مكذب ، كانت النتيجة قوله : { ذلك } أي كل من المثلين { مثل القوم } أي الأقوياء ما يحاولونه { الذين كذبوا بآياتنا } أي في أن تركهم لها إنما هو بمجرد الهوى ، لأن لها من الظهور والعظمة بنسبتها إلينا ما لا يخفي على من له أدنى بصيرة { فاقصص القصص } أي فأخبر الإخبار العظيم الذي تتبعت به مواقع الوقائع وآثار الأعيان حتى لم تدع في شيء منها لبساً على كل من يسمع لك من اليهود وغيرهم ، وهو مصدر قص الشيء - إذا تبع أثره واستقصى في ذلك { لعلهم يتفكرون * } أي ليكون حالهم حال من يرجى تفكره في هذه الآيات ، فيعلمون أنه لا يأتي بمثلها من غير معلم من الناس إلا نبي فيردهم ذلك إلى الصواب حذراً من مثل حال هذا . ولما ظهر بهذا أن مثل الكلب الذي اكتسب من ممثوله من السوء والقذارة ما لا يعلمه حق علمه إلا الله تعالى مثل المكذبين بالآيات ، أنتج ذلك قوله تأكيداً لذمهم وزجرهم : { ساء مثلاً القوم } أي مثل القوم { الذين كذبوا بآياتنا } أي فلو لم يكن عليهم درك في فعلهم أن لا تنزل هذا المثل عليهم لكان أعظم زاجراً له أدنى مروءة ، لأنهم نزلوا عما لمن يتبعها من العظمة إلى ما ظهر بهذا المثل من الخسة ، فكيف وهم يضرون أنفسهم بذلك ولا يضرون إلا إياها ، وذلك معنى قوله : { وأنفسهم } أي خاصة { كانوا يظلمون * } أي كان ذلك في طبعهم جبلة لهم ، لا يقدر غير الله على تغييره . ولما كان ذلك محل عجب ممن يميل عن المنهج بعد إيضاحه هذا الإيضاح الشافي ، قال جواباً لمن كأنه قال : فما لهم لا يؤمنون ؟ مفصلاً لقوله { ولو شئنا لرفعناه بها } [ الأعراف : 176 ] : { من يهد الله } أي يخلق الهداية في قلبه الملك الأعظم الذي لا أمر لأحد معه { فهو المهتدي } أي لا غيره . ولما كان في سياق الاستدلال على أن أكثر الخلق هالك بالفسق ونقض العهد ، وحد { المهتدي } [ الأعراف : 177 ] نظراً إلى لفظ { من } وجمع الضال نظراً إلى معناها فقال : { ومن يضلل فأولئك هم } أي البعداء البغضاء خاصة لا غيرهم { الخاسرون * } إذ لا فعل لغيره أصلاً ، والآية من فذلكة ما مضى ، وما أحسن ختمها بالخسران في وعظ من ترك الآخرة بإقباله على أرباح الدنيا وأعرضها الفانية ، ثم تعقيبها بذرء جهنم الذين لا أخسر منهم . ذكر قصة بلعام من التوراة - قال في السفر الرابع منها بعد أن ساق قتالهم لسيحون ملك الأمورانيين : وفرق المؤابيون من الشعب فرقاً شديداً لأنهم رأوه شعباً عظيماً ، فاضطرب المؤابيون ورجفت قلوبهم خوفاً من بني إسرائيل ، وقال ملك مؤاب لأشياخ مدين : اعلموا أن هذا الجمع يرتعي حرثنا ، ولا يدع أحداً إلا أهلكه ، ويرتعي كل من حولنا كما يرتعي الثور عشب الأرض ، وكان ملك المؤابيين في ذلك الزمان بالاق بن صفور ، فأرسل رسلاً إلى بلعام بن بعور العراف المعبر للأحلام الذي كان ينزل على شاطىء النهر قريباً من أرض بني عمون ليدعوه إليه فيستعين به : أخبرك أنه قد خرج شعب من أرض مصر ، فغشى وجه الأرض كلها ، وقد نزلوا جبالنا ، فأطلب إليك أن تأتي وتلعن هذا الشعب لأنه أقوى وأعز منا ، لعلنا نقدر أن نحاربه ونهلكه عن جديد الأرض ، لأني عارف أن الذي تباركه هو مبارك ، والذي تلعنه هو ملعون ، وانطلق أشياخ مؤاب وأشياخ مدين ومعهم هدايا وجوائز ، فأتوا بلعام فقالوا له قول بالاق ، فقال لهم : بيتوا هاهنا ليلتكم هذه فأخبركم بما يقول الرب ، فأقام أشراف مؤاب عند بلعام ، فأتى ملك الله بلعام وقال له : من القوم الذين أتوك ؟ قال بلعام للملاك : بالاق بن صفور ملك مؤاب أرسل إلي وقال : قد خرج شعب من أرض مصر فملأ وجه الأرض ، فأقبل إلينا حتى تلعنه ، لعلي أقدر أن أجاهده وأهلكه ، وقال الملاك لبلعام : لا تنطلق مع القوم ولا تلعن الشعب لأنه مبارك ، فقال بلعام بكرة لعظماء بالاق : انطلقوا إلى صاحبكم ، لأن الرب لم يحب أن يدعني أنطلق معكم ، ونهض عظماء مؤاب فأتوا بالاق وقالوا له : لم يهو بلعام إتيانك معنا ، فعاد بالاق أيضاً فأرسل رسلاً أعظم وأكرم من الأولين ، فأتوا بلعام وقالوا له : هكذا يقول بالاق بن صفور : لا تمتنع أن تأتيني لأني سأعظمك وأكرمك جداً ، وما قلت لي من شيء فعلت ، وأقبل إلينا لتلعن لي - هذا الشعب ، فرد بلعام على رسل بالاق قائلاً : لو أن بالاق أعطاني ملء بيته ذهباً وفضة لم أقدر أن أتعدى قول ربي وإلهي ، ولا أحيد عن قول صغير ولا كبير من أقواله ، فعرجوا أنتم أيضاً عندنا ليلتكم هذه حتى أنظر ما يخبروني ملاك الله من أمركم ، فنزل وحي الله على بلعام ليلاً ، وقال له : إن كان هؤلاء القوم إنما أتوك ليدعوك فقم فانطلق معهم ، ولكن إياك أن تعمل إلا ما أقول فنهض بلعام بكرة وأسرج أتانه وانطلق مع عظماء مؤاب ، فقال ملاك الرب في الطريق ليكون له لدداً ، فرأت الأتان ملاك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه في يده ، فحادت عن الطريق وسارت في الحرث ، فضربها بلعام ليردها إلى الطريق ، فقام ملاك الرب في طريق ضيق بين كرمين فرأت الأتانة ملك الرب فزحمت الحائط وضغطت رجل بلعام في الحائط ، فعاد يضربها أيضاً ، ثم عاد ملاك الرب وقام في موضع ضيق حيث ليس لها موضع تحيد منه يمنة ولا يسره ، فبصرت بملاك الرب وربضت تحت بلعام ، فاشتد غضب بلعام وضرب الأتان بالعصا ، وفتح الرب فم الأتان وقالت لبلعام : ما الذي صنعت بك حتى ضربتني ثلاث مرات ؟ قال بلعام : لأنك زريت بي ، ولو أنه كان في يدي سيف كنت قد قتلتك الآن ، فقالت : ألست أتانتك التي تركبني منذ صباك إلى اليوم ؟ هل صنعت مثل هذا الصنع قط ؟ قال لها : لا وجلّى الرب عن بصر بلعام فرأى ملك الله قائماً في الطريق مخترطاً سيفه ممسكه بيده ، فجثا وخر على وجهه ساجداً ، فقال له ملاك الرب : ما بالك ضربت أتانك ثلاث مرات أنا الذي خرجت لأكون لك لداداً ، لأنك أخذت في طريق خلافاً لأمري ، فلما رأتني الأتان حادت عني ثلاث مرات ، ولو أنها لم تحد عني كنت قتلتك وأبقيت عليها ، قال بلعام لملاك الرب : أسأت وأجرمت ، لم أعلم أنك قائم بإزائي في الطريق ، فالآن إن كان انطلاقي مما تكرهه رجعت ، قال ملاك الرب لبلعام : انطلق مع القوم وإياك أن تفعل شيئاً إلا ما أقول لك ! فانطلق بلعام ، فسمع بالاق فخرج ليتلقاه وقال بالاق : لم تأتني ؟ قال : قد أتيتك الآن ، لعلك تظن أني أقدر أن أقول شيئاً إلا القول الذي يجريه اللهعلى لساني به أنطق ، فلما كان الغد عمد بالاق إلى بلعام وأصعده إلى بيت بعل الصنم ، فرأى من هناك أقاصي منازل شعب إسرائيل ، وقال بلعام لبالاق : ابني لي هاهنا سبعة مذابح ، وهيىء لي سبعة ثيران وسبعة كباش ، وفعل بالاق كما قال له بلعام ، ورفع بالاق الكباش والثيران على المذبح قرباناً ، وقال بلعام لبالاق : قم هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا ، لعل الرب يوحي إليّ ما أهواه ، وأنا مظهر لك ما يوحي به ، فانطلق فظهر الله وألهمه قولاً وقال له : انطلق إلى بالاق وقل له هذا القول ، فأتاه وهو قائم عند قرابينه وجميع قواد مؤاب معه ، ورفع بلعام صوته بأمثاله وقال : ساقني بالاق ملك المؤابيين من أرام التي في المشرق ، وقال لي : أقبل حتى تلعن يعقوب وتهلك آل إسرائيل ، فكيف ألعنه ولم يلعنه الله ، وكيف أهلكه والرب لا يريد هلاكه ، رأيته من رؤوس الجبال ، ونظرت إليه من فوق الآكام وإذا هو شعب وحده لا يعد مع الشعوب ، ومن يقدر يحصي جميع عدد يعقوب ، أو من يقدر يحصي عدد ربع بني إسرائيل ، تموت نفسي موتاً ويكون آخري إلى آخرهم ، قال بالاق لبلعام : دعوتك لتلعن أعدائي فإذا أنت تباركهم وتدعوا لهم ، فرد بلعام قائلاً : الذي يلهمني الرب ويجري على لساني إياه أحفظ ، وبه أنطق : قال له بالاق : مر معي إلى موضع آخر لنراهم من هناك ، وإنما أسوقك لترى آخرهم ولا تراهم أجمعين ، وانطلق به إلى حقل الربية وأقامه على رأس الأكمة ، وابتنى هناك سبعى مذابح ، وقرب عليها الثيران والكباش ، قال بلعام : قف هاهنا عند قرابينك حتى أنطلق أنا الآن ، فانظر ما الذي يقال ؟ وتجلى الرب على بلعام وأجرى على فيه قولاً وقال له : انطلق إلى بالاق فأخبره بهذا القول ، فأتاه وهو قائم عند قرابينه ومعه أشراف مؤاب ، فرفع بلعام صوته بأمثاله وقال ؛ انهض بالاق واسمع قولي وأصغ لشهادتي يا ابن صفور ! اعلم أن الله ليس مثل الرجل يحلف ويكذب ؛ إذا قال الرب قولاً فعله ، وكلامه دائم إلى الأبد ، ساقني لأعود وأبرك ، ولا أرد البركة ولا أخالف ما أمرت به ، لست أرى في آل يعقوب إثماً ولا غدراً عند بني إسرائيل ولا ظلماً ، لأن الله ربه معه الله الذي أخرجهم من مصر بعزة وعظمة قوية ، ولست أرى في آل يعقوب طيرة ، ولا حساب نجوم أو عراف بين بني إسرائيل ، كيف أقول والشعب قائم مثل الضرغام لا يربض حتى يفترس فريسته ويشرب دم القتل ، فقال بالاق لبلعام : أطلب أن لا تلعنه ولا تدعوا له ، فرد بلعام على بالاق قائلاً : ألست قلت لك : إني إنما أنطق بما يقول لي الرب ، فقال بالاق : انطلق بنا إلى موضع آخر ، لعل الله يرضى بغير هذا فتلعنه لي هناك ، فأصعده إلى رأس فغور الذي بإزاء إستيمون ، فأمره بمثل ما تقدم من الذبح والقربان ، فرأى بلعام أن الرب يحب أن يدعو لبني إسرائيل ، ولم ينطلق كما كان ينطلق في كل وقت ليطلب الوحي ، ولكن أقبل بوجهه إلى البرية ومد بصره ، فرأى بني إسرائيل نزولاً قبائل قبائل فحل عليه روح الله ، ورفع صوته بأمثاله وقال : قل يا بلعام بن بعور ، قل أيها الرجل الذي أجلى عن بصره ، قل أيها الذي سمع قول الله ورأى رؤيا الله وهو ملقى وعيناه مفتوحتان ، ما أحسن منزلك يا يعقوب ومنازلك يا إسرائيل ! وخيمك كالأدوية الجارية ، ومثل الفراديس التي على شاطىء النهر ، ومثل الجنى الذي ركزه الله ، ومثل شجر الأرز على شاطى النهر يخرج رجل من بينه وذريته أكثر من الماء الكثير ، ويعظم على الملك ، وذلك بقوة الله الذي أخرجهم من أرض مصر بغير توقف رثماً ، يأكل خيرات الشعوب أعدائه ويكسر عظامهم ويقطع ظهوهم ، رتع وربض كالأسد ومثل شبل الليث ، ومن يقدر أن يبعثه ، يبارك مباركوك ويلعن لاعنوك ، فاشتد غضب بالاق على بلعام وصفق بيديه متلهفاً وقال : دعوتك للعن أعدائي ، فماذا أنت تباركهم وتدعو لهم ثلاث مرات ، انصرف الآن إلى بلادك ، قد كنت عزمت على إكرامك وإجازتك فإذا الرب قد أحرمك ذلك ، فرد بلعام على بالاق قائلاً : قد كنت قلت لرسلك الذين أرسلتهم إليّ أنه لو وهب لي بالاق ملء بيته من ذهب وفضة لم أقدر أتعدى عن قول الرب ، ولكن إنما انطق ما يلهمني الرب ، فأنا أنطلق الآن إلى أرضي ، فأسمع ما أشير عليك وأخبرك ما يصنع هذا الشعب بشعبك آخر الأيام ، ثم رفع صوته بأمثاله وقال : قل يا بلعام بن بعور قل أيها الرجل المجلى عن بصره ! قل أيها الذي سمع قول الله وعلم علم العلي ورأى رؤيا الله إذ هو ملقى وعيناه مفتوحتان ! فإني رأيته وإذا ليس ظهوره الآن وإن كان متدانفاً ، ونظرت في أمره وإذا ليس بقريب ، يشرق نجم من آل يعقوب ، ويقوم رئيس من بني إسرائيل ، ويهلك جبابرة من مؤاب ويبيد جميع بني شيث ، وتثير أدوم ميراثه ، وساعير وراثة أعدائه يصير له ، ويستفيد بنو إسرائيل قوة بقوته - ونحو ذلك من الكلام الذي فيه ما يكون سبباً لا نسلاخه من الآيات ، لكن ذكر المفسرون أنه أشار عليه باختلاط نساء بلاده ببني إسرائيل متزينات غير ممتنعات ممن أرادهن منهم ليزنوا بهن فيحل بهم الرجز ، فوقع بهم ذلك ، وهو الصواب لأنه ستأتي الإشارة إليه في التوارة عند فتح مدين بقوله : لماذا أبقيتم على الإثاث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته - وسيأتي ذلك قريباً ، وما فيه من ذكر الوحي فهو محمول على المنام أو غير ذلك مما يليق ؛ ثم قال : وقام بلعام ورجع منصرفاً إلى بلاده وبالاق أيضاً رجع إلى بيته ، وسكن بنو إسرائيل شاطيم ، وبدأ الشعب أن يسفح مع بنات مؤاب ، ودعون الشعب إلى ذبائح آلهتهم ، وأكل الشعب - من ذبائحهم وسجدوا لآلهتهم ، وكمل بنو إسرائيل لعبادة بعليون الصنم ، فاشتد غضب الله على بني إسرائيل ، فقال الرب لموسى اعمد إلى جميع بني إسرائيل فافضحهم ، فقال موسى : يقتل كل رجل منكم كل من أخطأ وسجد لبعليون ، وإذا رجل من بني إسرائيل قد أتى بجرأة أمام إخوته من غير أن يستحي ، فدخل على امرأة مدينية وموسى وبنو إسرائيل يبكون في باب قبة الآمد ، فرآه فنحاس بن اليعازر بن هارون الحبر فنهض من الجماعة غضباً لله وأخذ بيده رمحاً ودخل إلى بيت الذي كانا فيه فطعنهما بالرمح فقتلهما ، فكف الموت الفاشي عن بني إسرائيل ، وكان عدد الذين ماتوا في الموت البغتة أربعة وعشرين ألفاً ، وكلم الرب موسى وقال له : فنحاس صرف غضبي عن بين إسرائيل وغار غيرة لله بينهم وطهر بني إسرائيل ، وكان اسم القتيل الذي قتل مع المدينية زمري ابن سلو ، وكان رئيساً في قبيلة شمعون ، وكانت المرأة المدينية كزبى بنت صور ، وكان أبوها - من رؤساء أهل مدين ، وقال بعض المفسرين : أنه خرج رافعاً الحربة إلى السماء ، قد اعتمد بمرفقه على خاصرته ، وأسند الحربة إلى لحيته ، فمن هنالك يعطي بنو إسرائيل ولد فنحاس من كل ذبيحة القبة والذراع واللحي والبكر من كل أموالهم وأنفسهم لأنه كان بكراً لعيزار بن هارون . ثم كلم الرب موسى وقال له : ضيق على أهل مدين وأهلكهم كما ضيقوا عليكم ولحسوكم ، ثم قال : ثم كلم الرب موسى وقال له : إني لمنتقم من المدينيين ما صنعوا بين بني إسرائيل ، ثم تقتص إلى شعبك ، ثم قال موسى للشعب : يتسلح منكم قوم للحرب لينتقموا للرب من المدينيين ، وليكونوا اثنى عشر ألفاً ، فانتخب موسى من بني إسرائيل ألفاً من كل سبط ، اثنى عشر أبطالاً متسلحين وأرسلهم ، وصير قائدهم فنحاس بن اليعازر الحبر ومعه أوعية القدس وقرون ينفخ بها ، وتقووا على مدين كما أمر الرب موسى وقتلوا كل ذكر فيها وقتلو ملوك مدين مع القتلى ، وقتل بلعام بن بعور معهم في الحرب ، وسبى بنو إسرائيل نساء مدين وانتهبوا مواشيهم وسلبوا جميع دوابهم وأموالهم وأخربوا جميع قرى مساكنهم وأتو بما انتهبوه إلى موسى ، وخرج موسى وجميع عظماء الجماعة فتلقوهم خارج العسكر ، وغضب موسى على رؤساء الأحبار ورؤساء الألوف والمئين الذي أتوه من الحرب فقال لهم : لماذا أبقيتم على الإناث وهن كن عثرة لبني إسرائيل عن قول بلعام ومشورته ، وفتنوا وغدروا وتمردوا على الرب في أمر فغور - وفي نسخة السبعين : فإن هؤلاء كن شيئاً لبني إسرائيل لقوم بلعام أن يتباعدوا ويتهاونوا بكلمة الرب من أجل فغور - فواقعت السخطة جماعة الرب - وفي النسخة الأخرى : وتسلط الموت على جماعة الرب - بغتة ، فاقتلوا الآن جميع الذكورة من الصبيان ، وكل امرأة أدركت وعقلت وعرفت الرجال فاقتلوها ، وأبقوا على جميع النساء اللواتي لم يعرفن الرجال وأما أنتم فانزلوا خارجاً عن العسكر سبعة أيام - إلى آخر ما مضى قريباً في الآصار .