Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 74, Ayat: 1-10)
Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
ولما ختمت " المزمل " بالبشارة لأرباب البصارة بعدما بدئت بالاجتهاد في الخدمة المهيىء للقيام بأعباء الدعوة ، افتتحت هذه بمحط حكمة الرسالة وهي النذارة لأصحاب الخسارة ، فقال معبراً بما فيه بشارة بالسعة في المال والرجال والصلاح وحسن الحال في الحال والمآل ، ومعرفاً بأن المخاطب في غاية اليقظة بالقلب وإن ستر القالب : { يا أيها المدثر * } المشتمل بثوبه ، من تدثر بالثوب : اشتمل به ، والدثار - بالكسر ما فوق الشعار من الثياب ، والشعار ما لاصق البدن " الأنصار شعار والناس دثار " والدثر : المار الكثير ، ودثر الشجر : أورق ، وتدثير الطائر : إصلاحه عشه ، والتعبير بالأداة الصالحة للقرب والبعد يراد به غاية القرب بما عليه السياق وإن كان التعبير بالأداة فيه نوع ستر لذلك مناسبة للتدثر ، واختير التعبير بها لأنه لا يقال بعدها إلى ما جل وعظم من الأمور ، وكان الدثار لم يعم بدنه الشريف بما دل عليه التعبير بالإدغام دون الإظهار الدال على المبالغة لأن المراد إنما كان ستر العين ليجتمع القلب ، فيكفي في ذلك ستر الرأس وما قاربه من البدن ، والإدغام شديد المناسبة للدثار . ولما كان في حال تدثره قد لزم موضعاً واحداً فلزم من ذلك إخفاء نفسه الشريفة ، أمره صلى الله عليه وسلم بالقيام ، وسبب عنه الإنذار إشارة إلى أن ما يراد به من أنه يكون أشهر الخلق بالرسالة العامة مقتض لتشمير الذيل والحمل على النفس بغاية الجد والاجتهاد اللازم عنه كثرة الانتشار ، فهو مناف للتدثر بكل اعتبار فقال : { قم } أي مطلق قيام ، ولا سيما من محل تدثرك بغاية العزم والجد . ولما كان الأمر عند نزول هذه السورة في أوله والناس قد عمهم الفساد ، ذكر أحد وصفي الرسالة إيذاناً بشدة الحاجة إليه فقال مسبباً عن قيامه : { فأنذر } أي فافعل الإنذار لكل من يمكن إنذاره فأنذر من كان راقداً في غفلاته ، متدثراً بأثواب سكراته ، لاهياً عما أمامه من أهوال يوم القيامة ، وكذا من كان مستيقظاً ولكنه متدثر بأثواب تشويفاته وأغشيته فتراته ، فإنه يجب على كل مربوب أن يشكر ربه وإلا عاقبه بعناده له أو غفلته عنه بما أقله الإعراض عنه ، وحذف المفعول إشارة إلى عموم الإنذار لكل من يمكن منه المخالفة عقلاً وهم جميع الخلق ، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان نزل عليه جبريل عليه السلام بـ { اقرأ باسم ربك } [ العلق : 1 ] ونحوها فكان بذلك نبياً ثم نزلت عليه هذه الآية فكان بها رسولاً ، وذلك أنه نودي وهو في جبل حراء ، فلما سمع الصوت نظر يميناً وشمالاً فلم ير شيئاً ، فرفع رأسه فإذا جبريل عليه الصلاة والسلام جالس على عرش بين السماء والأرض ، ففرق من ذلك أشد الفرق ، فبادر المجيء إلى البيت ترجف بوادره وقال : " دثروني دثروني ، لقد خشيت على نفسي ، صبوا عليّ ماءً بارداً " . ولما كان الإنذار يتضمن مواجهة الناس بما يكرهون ، وذلك عظيم على الإنسان ، وكان المفتر عن اتباع الداعي أحد أمرين : تركه مما يؤمر به ، وطلبه عليه الأجر ، كما أن الموجب لاتباعه عمله بما دعا إليه ، وبعده عن أخذ الأجر عليه ، أمره بتعظيم من أرسله سبحانه فإنه إذا عظم حق تعظيمه صغر كل شيء دونه ، فهان عليه الدعاء وكان له معيناً على القبول فقال : { وربك } أي المربي لك خاصة { فكبر * } أي وقم فتسبب عن قيامك بغاية الجد والاجتهاد أن تصفه وحده بالكبرياء قولاً واعتقاداً على كل حال ، وذلك تنزيهه عن الشرك أول كل شيء ، وكذا عن كل ما لا يليق به من وصل وفصل ، ومن سؤال غيره ، والاشتغال بسواه . وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ملاءمتها لسورة المزمل واضحة ، واستفتاح السورتين من نمط واحد ، وما ابتدئت به كل واحدة منهما من جليل خطابه عليه الصلاة والسلام وعظيم تكريمه { يا أيها المزمل } [ المزمل : 1 ] { يا أيها المدثر } [ المدثر : 1 ] والأمر فيهما بما يخصه { قم الّيل إلا قليلاً نصفه } [ المزمل : 2 - 3 ] الآي ، وفي الآخرى { قم فانذر وربك فكبر } [ المدثر : 2 - 3 ] أتبعت في الأولى بقوله : { فاصبر على ما يقولون } [ المزمل : 10 ] وفي الثانية بقوله { ولربك فاصبر } [ المدثر : 7 ] وكل ذلك قصد واحد ، واتبع أمره بالصبر في الزمل بتهديد الكفار ووعيدهم { وذرني والمكذبين } [ المزمل : 11 ] الآيات ، وكذلك في الأخرى { ذرني ومن خلقت وحيداً } [ المدثر : 11 ] الآيات ، فالسورتان واردتان في معرض واحد وقصد متحد - انتهى . ولما كان تنزيه العبد عن الأدناس لأجل تنزيه المعبود ، قال آمراً بتطهير الظاهر والباطن باستكمال القوة النظرية في تعظيمه سبحانه ليصلح أن يكون من أهل حضرته وهو أول مأمور به من رفض العادات المذمومة : { وثيابك فطهر * } أي وقم فخص ثيابك الحسية بإبعادها عن النجاسات بمجانبة عوائد المتكبرين من تطويلها ، وبتطهيرها لتصلح للوقوف في الخدمة بالحضرة القدسية ، والمعنوية وهي كل ما اشتمل على العبد من الأخلاق المذمومة والعوائد السقيمة من الفترة عن الخدمة والضجر والاسترسال مع شيء من عوائد النفس ، وذلك يهون باستكمال القوة النظرية . ولما أمر بمجانبة الذر في الثياب وأراد الحسية والمعنوية ، وكان ذلك ظاهراً في الحسية ، وجعل ذلك كناية عن تجنب الأقذار كلها لأن من جنب ذلك ملبسه أبعده عن نفسه من باب الأولى ، حقق العموم وأكد فقال : { والرجز } أي كل قذر فإنه سبب الدنايا التي هي سبب العذاب ، قال في القاموس : الرجز بالكسر والضم : القذر وعبادة الأوثان والعذاب والشرك . { فاهجر * } أي جانب جهاراً وعبادة ، ليحصل لك الثواب كما كنت تجانبها سراً وعادة ، فحصل لك الثناء الحسن حتى أن قريشاً إنما تسميك الأمين ولا تناظر لك أحداً منها . ولما بدأ بأحد سببي القبول ، أتبعه الثاني المبعد عن قاصمة العمل من الإعجاب والرياء والملل فقال : { ولا تمنن } أي على أحد بدعائك له أو بشيء تعطيه له على جهة الهبة أو القرض بأن تقطع لذة من أحسنت إليه بالتثقيل عليه بذكرك على جهة الاستعلاء والاستكثار بما فعلته معه ، أو لا تعط شيئاً حال كونك { تستكثر * } أي تطلب أن تعطي أجراً أو أكثر مما أعطيت - قاله ابن عباس رضي الله عنهما ، وهو من قولهم ، منَّ - إذا أعطى ، وذلك لأنه الأليق بالمعطي من الخلق أن يستقل ما أعطى ، ويشكر الله الذي وفقه له ، وبالآخذ أن يستكثر ما أخذ ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن لا يفعل شيئاً لعلة أصلاً ، بل لله خالصاً ، فإنه إذا زال الاستكثار حصل الإخلاص ، لأنه لا يتعلق همه بطلب الاستمثال ، فكيف بالاستقلال ، فيكون العمل في غاية الخلوص لا يقصد به ثواباً أصلاً ، ولا يراد لغير وجه الله تعالى ، وهذا هو النهاية في الإخلاص . ولما كان الإنذار شديداً على النفوس يحصل به من المعالجات ما الموت دونه ، لأن ترك المألوفات أصعب شيء على النفوس ، وكذا ترك الفوائد ، قال أمراً بالتحلي بالعاصم بعد التخلي عن القاصم ، معلماً بأن الأذى من المنذرين أمر لا بد منه فيدخل في الطاعة على بصيرة ، فاقتضى الحال لذلك أن الإنذار يهون بالغنى عن الفانين والكون مع الباقي وحده ، فأشار إلى ذلك بتقديم الإله معبراً عنه بوصف الإحسان ترغيباً فقال : { ولربك } أي المحسن إليك ، المربي لك ، المدبر لجميع مصالحك وحده { فاصبر * } أي على مشاق التكاليف أمراً ونهياً وأذى المشركين وشظف العيش وجميع البلايا ، فإنه يجزل عطاءك من خير الدارين بحيث لا يحوجك إلى أحد ، ويحوج الناس إليك ، ويهون عليك حمل المشاق في الدارين ولا سيما أمر يوم البعث ، فإن من حمل العمل في الدنيا حمله العمل في الآخرة . ولما كان المقام للإنذار ، وكان من رد الأوامر تكذيباً كفر ، ومن تهاون بها ما أطاع ولا شكر ، حذر من الفتور عنها بذكر ما للمكذب بها ، فقال مسبباً عن ذلك باعثاً على اكتساب الخيرات من غير كسل ولا توقف ، مذكراً بأن الملك التقم القرن وأصغى بجبهته انتظاراً للأمر بالنفخ ، مشيراً بالبناء للمفعول إلى هوانه لديه وخفته عليه مؤذناً بأداة التحقق أنه لا بد من وقوعه : { فإذا نقر } أي نفخ وصوّت بشدة وصلابة ونفوذ وإنكاء { في الناقور * } أي الصور وهو القرن الذي إسرافيل عليه السلام ملتقمه الآن وهو مصغ لانتظار الأمر بالنفخ فيه للقيامة ، ويجوز أن يراد الأيام التي يقضي فيها بالذل على الكافرين كيوم بدر والفتح وغيرهما كما جعلت الساعة والقيامة كناية عن الموت ، فقال صلى الله عليه وسلم : " من مات فقد قامت قيامته " عبر عنه بالنقر إشارة إلى أنه في شدته كالنقر في الصلب فيكون عنه صوت هائل ، وأصل النقر القرع الذي هو سبب الصوت فهو أشد من صدعك لهم بالإنذار للحذار من دار البوار ، فهنالك ترد الأرواح إلى أجسادها ، فيبعث الناس فيقومون من قبورهم كنفس واحدة ، وترى عاقبة الصبر ، ويرى أعداؤك عاقبة الكبر ، والتعبير فيه بصيغة المبالغة وجعله فاعلاً كالجاسوس إشارة إلى زيادة العظمة حتى كأنه هو الفاعل على هيئة هي في غاية الشدة والقوة ، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضي الله عنهم من النفخ في الصور وقربه فقالوا : " كيف نقول يا رسول الله ؟ قال : قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل " ويجوز أن يكون التسبب عن الأمر بالصبر ، أي اصبر فلنأخذن بثأرك في ذلك اليوم بما يقر عينك ، فيكون تسلية له صلى الله عليه وسلم وتهديداً لهم . ولما ذكر هذا الشرط هل ( ؟ ) الذي صوره بصوره هائلة ، أجابه بقوله : { فذلك } أي الوقت الصعب الشديد العظيم الشدة جداً البالغ في ذلك مبلغاً يشار إليه إشارة ما هو أبعد بعيد ، وهو وقت النقر ، ثم أبدل من هذا المبتدأ زيادة في تهويله قوله : { يومئذ } أي وقت إذ يكون النقر الهائل { يوم عسير * } أي بالغ العسر { على الكافرين } أي الذين كانوا يستهينون بالإنذار ويعرضون عنه لأنهم راسحون في الكفر الذي هو ستر ما يجب إظهاره من دلائل الوحدانية ، ولما كان العسر قد يطلق على الشيء وفيه يسر من بعض الجهات أو يعالج فيرجع يسيراً ، بين أنه ليس كذلك بقوله : { غير يسير * } فجمع فيه بين إثبات الشيء ونفي ضده تحقيقاً لأمره ودفعاً للمجاز عنه وتأييداً لكونه ولأنه غير منقطع بوجه ، وتقييده بالكافرين يشعر بتيسره على المؤمنين .