Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 8, Ayat: 36-40)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما أخبر سبحانه عن أحوال الكفار في الأعمال البدنية ، وكان غلبهم مع كثرتهم وقوتهم مستبعداً ، أخبر بما يقربه مبيناً لأعمالهم المالية فقال : { إن الذين كفروا } أي مع كثرتهم لأنهم ستروا مرائي عقولهم التي هي الإنسان بالحقيقة فنقصوا بذلك نقصاً لا يدرك كنهه { ينفقون أموالهم } أي يعزمون على إنفاقها فيما يأتي { ليصدوا } أي بزعمهم أنفسهم وغيرهم { عن سبيل الله } أي عن سلوك طريق - الذي لا يدني عظمته عظمة مع اتساعه ووضوحه وسهولته { فسينفقونها } أي بحكم قاهر لهم لا يقدرون على الانفكاك عنه { ثم تكون } أي بعد إنفاقها بمدة ، وعبر بعبارة ظاهرة في مضرتها فقال : { عليهم } وأبلغ في ذلك بأن أوقع عليها المصدر فقال : { حسرة } أي لضياعها وعدم تأثيرها { ثم يغلبون * } أي كما اتفق لهم في بدر سواء ، فإنهم أنفقوا مع الكثرة والقوة ولم يغن عنهم شيء من ذلك شيئاً مما أراد الله بهم ، بل كان وبالاً عليهم ، فإنه كان سبباً لجرأتهم حتى أقدموا نظراً إلى الحاضر وقصوراً عن الغائب كالبهائم فهلكوا ، وكان ذلك قوة للمؤمنين فما كان في الحقيقة إلا لهم ، وهذا الكلام منطبق على ما كان سبب نزوله الآية وعلى كل ما شاكله ، وذلك أنهم لما قهروا في بدر قال لهم أبو سفيان : إنه ينبغي أن تنفقوا مال تلك العير - يعني التي كانت معه - ونحث على حرب محمد ، فأجابوا وأنفقوه على غزوة أحد فحصل لهم فيها بعض ظفر ثم تعقبه الحسرة والمغلوبية في بدر الموعد وكل ما بعدها ؛ ثم أظهر وصفهم الذي استحقوا به ذلك تعليقاً للحكم به وتعميماً منذراً لهم بما هو أشد من ذلك فقال : { والذين كفروا } أي حكم بدوام كفرهم عامة سواء زادوا على الكفر فعل ما تقدم أم لا { إلى جهنم } أي لا إلى غيرها . ولما كان المنكى هو الحشر ، لا كونه من معين ، بني للمفعول قوله : { يحشرون * } أي بعد الموت فهم في خزي دائم دنيا وأخرى ، ويجوز أن يتجوز بجهنم عن أسبابها فيكون المعنى أنهم يستدرجون بمباشرة أسبابها إليها ويحملون في الدنيا عليها ، وهذه الآيات - مع كونها معلمة بما لهم في الدنيا وما لهم في الآخرة من أن آخر أمرهم في الدنيا الغلب كما كشف عنه الزمان علماً من أعلام النبوة وفي الآخرة جهنم - هي مبينة لكذبهم في قولهم { لو نشاء لقلنا مثل هذا } [ الأنفال : 31 ] فإنهم لو كانوا صادقين في دعواهم لقالوا مثله ثم قالوا : لو كان هذا هو الحق لا غيره لما قلنا مثله ، موضع قولهم { إن كان هذا هو الحق } [ الأنفال : 32 ] إلى آخره ، وأما آية المكاء والتصدية فكأنها تقول : هذا القرآن في أعلى درج البلاغة ولم تؤهلوا أنتم - مع ادعائكم السبق في البلاغة - لأن تعارضوا بشيء له أهلية لشيء من البلاغة ، بل نزلتم إلى أصوات الحيوانات العجم حقيقة ، فلا أجلى من هذا البيان على ما ادعيتم من الزور والبهتان ، وأما آية الإنفاق فقائلة : لو قدرتم في معارضته على إنفاق الأقوال لما عدلتم عنه إلى إنفاق الأموال المفضي إلى مقاساة الأهوال وفساد الأشباح ونفوق ما حوت من الأرواح المؤدي إلى الذل السرمد بالعذاب المؤبد . ولما ذكر حشر الكافرين ذكر علته فقال معلقاً بيحشرون : { ليميز الله } أي الذي له صفات الكمال بذلك الحشر { الخبيث من الطيب } أي إنما جعل للكفار داراً تخصهم ويخصونها لإظهار العدل والفضل بأن يميز الكافر من المؤمن فجعل لكل دار يتميز بها عدلاً في الكافرين وفضلاً على المؤمنين ، فيجعل الطيب في مكان واسع حسن { ويجعل الخبيث } أي الفريق المتصف بهذا الوصف { بعضه على بعض } والركم : جمع الشيء بعضه فوق بعض ، فكأن قوله : { فيركمه جميعاً } عطف تفسير يؤكد الذي قبله في إرادة الحقيقة مع إفهام شدة الاتصال حتى يصير الكل كالشيء الواحد كالسحاب المركوم ، والنتيجة قوله : { فيجعله في جهنم } أي دار الضيق والغم والتهجم والهم . ولما كان هذا أمراً لا فلاح معه ، استأنف قوله جامعاً تصريحاً بالعموم : { أولئك } أي البعداء البغضاء الذين أفهمهم اسم الجنس في الخبيث { هم الخاسرون * } أي خاصة لتناهي خسرانهم ، لأنهم اشتروا بأموالهم إهلاك أنفسهم بذلك الحشر . ولما بين ضلالهم في عبادتهم البدنية والمالية ، وكان في كثير من العبارات السالفة القطع للذين كفروا بلفظ الماضي بالشقاء ، كان ذلك موهماً لأن يراد من أوقع الكفر في الزمن الماضي وإن تاب ، فيكون مؤيساً من التوبة فيكون موجباً للثبات على الكفر ، قال تعالى متلطفاً بعباده مرشداً لهم إلى طريق الصواب مبيناً المخلص مما هم فيه من الوبال في جواب من كأنه قال : أما لهم من جبلة يتخلصون بها من الخسارة { قل للذين } أي لأجل الذين { كفروا } أني أقبل توبة من تاب منهم بمجرد انتهائه عن حاله { إن ينتهوا } أي يتجدد لهم وقتاً ما الانتهاء عن مغالبتهم بالانتهاء عن كفرهم فيذلوا لله ويخضعوا لأوامره { يغفر لهم } بناه للمفعول لأن النافع نفس الغفران وهو محو الذنب { ما قد سلف } أي مما اجترحوه كائناً ما كان فيمحي عيناً وأثراً فلا عقاب عليه ولا عتاب { وإن } أي وإن يثبتوا على كفرهم و { يعودوا } أي إلى المغالبة { فقد مضت سنت } أي طريقة { الأولين * } أي وجدت وانقضت ونفذت فلا مرد لها بدليل ما سمع من أخبار الماضين وشوهد من حال أهل بدر مما أوجب القطع بأن الله مع المؤمنين وعلى الكافرين ، ومن كان معه نصر ، ومن كان عليه خذل وأخذ وقسر { كتب الله لأغلبن أنا ورسلي } [ المجادلة : 21 ] { و لينصرن الله من ينصره } [ الحج : 40 ] { والعاقبة للمتقين } [ القصص : 128 ] وإن كانت الحرب سجالاً . ولما أشار ختم الآية قتالهم إن أصروا ، وكان التقدير : فأقدموا عليهم حيثما عادوكم إقدام الليوث الجريئة غير هائبين كثرتهم ولا قوتهم فإن الله خاذلهم ، عطف عليه قوله مصرحاً بالمقصود : { وقاتلوهم } أي دائماً { حتى لا تكون فتنة } أي سبب يوجب ميلاً عن الدين أصلاً { ويكون الدين } . ولما كانت هذه الوقعة قد سرت كتائب هيبتها في القلوب فوجبت أيما وجبت ، فضاقت وضعفت صدور الكافرين ، وانشرحت وقويت قلوب المؤمنين ؛ اقتضى هذا السياق التأكيد فقال : { كله لله } أي الملك الأعظم خالصاً غير مشوب بنوع خوف أو إغضاء على قذى ، وأصل الفتن : الخلطة المحيلة ، ويلزم ذلك أن يكون السبب عظيماً لأن الشيء لا يحول عن حاله إلا لأمرعظيم لأن مخالفة المألوف عسرة ، ومنه النتف ، وكذا نفت القدر ، وهو أن يغلي المرق فيلزق بجوانبها ، والتنوفة : القفر ، لأنه موضع ذلك ، ويلزمه الإخلاص ، من فتنت الذهب - إذا أذبته فتميز جيده من رديئه ، وتارة يكون الميل إلى جهة الرديء وهو الأغلب ، وتارة إلى الجيد ، ومنه { وفتناك فتوناً } [ طه : 40 ] . ولما كان لهم حال اللقاء حالان : إسلام وإقبال ، وكفر وإعراض وإخلال ، قال مبيناً لحكم القسمين : { فإن انتهوا } أي عن قتالكم بالمواجهة بالإسلام فاقبلوا منهم وانتهوا عن مسهم بسوء ولا تقولوا : أنتم متعوذون بذلك غير مخلصين ، تمسكاً بالتأكيد بكله ، فأنه ليس عليكم إلا ردهم عن المخالفة الظاهرة ، وأما الباطن فإلى الله { فإن الله } أي المحيط علماً وقدرة ، وقدم المجرور اهتماماً به إفهاماً لأن العلم به كالمختص به فقال : { بما يعملون } أي وإن دقَّ { بصير * } فيجاريهم عليه ، وأما أنتم فلستم عالمين بالظاهر والباطن معاً فعليكم قبول الظاهر ، والله بما تعملون أنتم أيضاً - من كف عنهم وقتل لله أو لحظّ نفس - بصير ، فيجازيكم على حقائق الأمور وبواطنها وإن أظهرتم للناس ما يقيم عذركم ، ويكمل لكل منكم أجر ما كان عزم على مباشرته من قتالهم لو لم ينتهوا ، وإن لم ينتهوا بل أقدموا على قتالكم ، هكذا كان الأصل ، ولكنه سبحانه عبر بقوله : { وإن تولوا } أي عن الإجابة تبشيراً لهم بهزيمتهم وقلة ثباتهم لما ألقى في قلوبهم من الرعب ، ويؤيد ذلك قوله : { فاعلموا أن الله } أي الذي له الإحاطة الكاملة بكل شيء { مولاكم } أي متولي أموركم فهو يعمل معكم ما يعمل من يتولى امر من يحبه من الاجتهاد في تحصيل ما ينفعه ودفع ما يضره فهو لا محالة ناصركم ؛ ثم استأنف مدحه بما هو أهله تعريفاً بقدره وترغيباً في تولية فقال : { نعم المولى } ولم يدخل فاء السبب هنا لأن المأمور به العلم ، واعتقاد كونه مولى واجب لذاته لا لشيء آخر ، بخلاف ما في آخر الحج ، فإن المأمور هناك الاعتصام { ونعم النصير * } أي فلا تخافوهم أصلاً وإن زادت كثرتهم وقويت شوكتهم فلا تبارحوهم حتى لا يكون إلا كلمة الله .