Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 84, Ayat: 9-15)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما كان هذا دالاً على العفو ، أتبعه ما يدل على الإكرام فقال : { وينقلب } أي يرجع من نفسه من غير مزعج برغبة وقبول { إلى أهله } أي الذين أهله الله بهم في الجنة فيكون أعرف بهم وبمنزله الذي أعد له منه بمنزله في الدنيا . ولما كانت السعادة في حصور السرور من غير قيد ، بنى للمفعول قوله : { مسروراً * } أي قد أوتي جنة وحريراً ، فإنه كان في الدنيا في أهله مشفقاً من العرض على الله مغموماً مضروراً يحاسب نفسه بكرة وعشياً حساباً عسيراً مع ما هو فيه من نكد الأهل وضيق العيش وشرور المخالفين ، فذكر هنا الثمرة والمسبب لأنها المقصودة بالذات ، وفي الشق الآخر السبب والأصل ، وقد استشكلت الصديقة أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها هذه الآية بما " روي عنها في الصحيح بلفظين أحدهما " ليس أحد يحاسب إلا هلك " والثاني " من نوقش الحساب عذب " قالت عائشة رضي الله عنها : فقلت : يا رسول الله ! أليس الله يقول { فأما من أوتي كتابه } [ الانشقاق : 8 ] الآية ، فقال : صلى الله عليه وسلم : إنما ذلك العرض " فإن كان اللفظ الأول هو الذي سمعته فالإشكال فيه واضح ، وذلك أنه يرجع إلى كلية موجبة هي " كل من حوسب هلك " والآية مرجع إلى جزئية سالبة وهي " بعض من يحاسب لا يهلك " وهو نقيض ، وحينئذ يكون اللفظ الثاني من تصرف الرواة ، وإن كان الثاني هو الذي سمعته فطريق تقدير الإشكال فيه أن يقال : المناقشة في اللغة من الاستقصاء وهو بلوغ الغاية ، وذلك في الحساب بذكر الجليل والحقير والمجازاة عليه ، فرجع الأمر أيضاً إلى كلية موجبة هي " كل من حوسب بجميع أعماله عذب " وذلك شامل لكل حساب سواء كان يسيراً أو لا ، لأن الأعم يشمل جميع أخصّياته ، والآية مثبتة أن من أعطي كتابه بيمينه يحاسب عليه ولا يهلك ، والصديقة رضي الله عنها عالمة بأن الكتاب يثبت فيه جميع الأعمال من قوله تعالى : { لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها } [ الكهف : 49 ] ومن حديث الحافظين وغير ذلك ، فرجع الأمر إلى أن بعض من يحاسب بجميع أعماله لا يهلك ، وحينئذ فالظاهر التعارض فسألت ، فأقرها صلى الله عليه وسلم على الإشكال وأجابها بما حاصله أن المراد بالحساب في الحديث مدلوله المطابقي ، وهو ذكر الأعمال كلها - والمقابلة على كل منها ، وذلك هو معنى المناقشة ، فمعنى " من نوقش الحساب " من حوسب حساباً حقيقياً بذكر جميع أعماله والمقابلة على كل منها ، وأن المراد بالحساب في الآية جزء المعنى المطابقي وهو ذكر الأعمال فقط من غير مقابلة ، وذلك بدلالة التضمن مجازاً مرسلاً لأنه إطلاق اسم الكل على الجزء ، ولأجل هذا كانت الصديقة رضي الله تعالى عنها تقول بعد هذا في تفسير الآية : يقرر بذنوبه ثم يتجاوز عنها - كما نقله عنها أبو حيان ، وعلى ذلك دل قوله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان عن ابن عمر رضي الله عنهما : " إن الله تعالى يدني المؤمن يوم القيامة فيضع كنفه عليه ويستره ثم يقول له : أتعرف ذنب كذا - حتى يذكره بذنوبه كلها ويرى في نفسه أنه قد هلك ، قال الرب سبحانه : سترتها عليك في الدنيا ، وأنا إغفرها لك اليوم " ولفظ " كنفه " يدل على ذلك فإن كنف الطائر جناحه ، وهو إذا وقع فرخه في كنفه عامله بغاية اللطف ، فالله تعالى أرحم وألطف { وأما من أوتي } أي بغاية السهولة وإن أبى هو ذلك { كتابه } أي صحيفة حسابه { وراء ظهره * } أي في شماله إيتاء مستغرقاً لجميع جهة الوراء التي هي علم السوء لأنه كان يعمل ما لم يأذن به الله ، فكأنه عمل من ورائه مما يظن أنه يخفى عليه سبحانه ، فكان حقيقاً بأن تعل يمينه إلى عنقه ، وتكون شماله إلى وراء ظهره ، ويوضع كتابه فيها ، وهذا احتباك : ذكر اليمين أولاً يدل على الشمال ثانياً ، وذكر الوراء ثانياً يدل على الأمام أولاً ، وسر ذلك أنه ذكر دليل المودة والرفق بالمصافحة ونحوها في السعيد ، ودليل الغدر والاغتيال في الشقي { فسوف يدعوا } أي بوعد لا محالة في وقوعه أبداً { ثبوراً * } أي حسرة وندماً بنحو قوله : واثبوراه ، وهو الهلاك الجامع لأنواع المكاره كلها لأن أعماله في الدنيا كانت أعمال الهالكين . ولما كان ذلك لا يكون إلا لبلاء كبير ، أتبعه ما يمكن أن يكون علة له فقال : { ويصلى سعيراً * } أي ويغمس في النار التي هي في غاية الاتقاد ويقاسي حرها وهي عاطفة عليه ومحطية به لأنه كان تابعاً لشهواته التي هي محفوفة بها فأوصلته إليها وأحاطت به . ولما ذكر هذا العذاب الذي لا يطاق ، أتبعه سببه ترهيباً منه واستعطافاً إلى التوبة وتحذيراً من السرور في دار الحزن ، فقال مؤكداً تنبيهاً على أنه لا ينبغي أن يصدق أن عاقلاً يثبت له سرور في الدنيا : { إنه كان } أي بما هو له كالجبلة والطبع { في أهله } أي في دار العمل { مسروراً * } أي ثابتاً له السرور بطراً بالمال والجاه فرحاً به مخلداً إليه مترفاً مع الفراغ والفرار عن ذكر حساب الآخرة كما قال في التي قبلها { وإذا انقلبوا إلى أهلهم انقلبوا فاكهين } [ المطففين : 31 ] ، لا يحزن أحدهم لذنب عمله ولا لقبيح ارتكبه ، بل يسر بكونه يأتي له ذلك فهو يحاسب في الآخرة حساباً عسيراً ، وينقلب إلى أعدائه مغموماً كسيراً ، وقد بان أن الكلام من الاحتباك : ذكر الحساب اليسير الذي هو الثمرة والمسبب أولاً يدل على حذف ضده ثانياً ، وذكر السرور في الأهل الذي هو السبب في الثاني يدل على حذف ضده وهو سبب السعادة وهو الغم ومحاسبة النفس في الأول ، فهو احتباك في احتباك ، ثم علل ثبات سروره فقال مؤكداً تنبيهاً أيضاً على أنه لا يصدق أن أحداً ينكر البعث مع ما له من الدلائل التي تفوت الحصر : { إنه ظن } لضعف نظره { أن } أي أنه { لن يحور * } أي يرجع إلى ربه أو ينقص أو يهلك { وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلاّ الدهر } [ الجاثية : 24 ] فلهذا كان يعمل عمل من لا يخاف عاقبة { بلى } ليرجعن صاغراً ناقصاً هالكاً ، ثم علل ذلك بقوله مؤكداً لأجل من ينكر : { إن ربه } أي الذي ابتدأ إنشاءه ورباه { كان } أزلاً وأبداً { به } أي هذا الشقي في إعادته كما كان في ابتدائه وفي جميع أعماله وأحواله التي لا يجوز في عدل عادل ترك الحساب عليها { بصيراً * } أي ناظراً له وعالماً به أبلغ نظر وأكمل علم ، فتركه مهملاً مع العلم بأعماله مناف للحكمة والعدل والملك ، فهو شيء لا يمكن في العقل بوجه .