Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 9, Ayat: 86-93)

Tafsir: Naẓm ad-durar fī tanāsub al-ayāt wa-s-suwar

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما افتتحت قصتهم بأن المتقين لا يتوقفون في الانتداب إلى الجهاد على أمر جديد ولا استئذان ، بل يكتفون بما سبق من عموم الحث عليه والندب إليه فيبادرون إليه الطرف ولا يحاذرون الحتف ، وأن من المنافقين من يستأذن في الجهاد جاعلاً استئذانه فيه باباً للاستئذان في التخلف عنه ، ومنهم من يصرح بالاستئذان في العقود ابتداء من غير تستر ، وعقب ذلك بالنهي عن الإعجاب بأموالهم وأولادهم ثم مر في ذكر أقسامهم وما لزمهم من فضائحهم وآثامهم ، إلى أن ختم القصة بأن أموالهم إنما هي لفتنتهم لا لرحمتهم ، ولمحنتهم لا لمنحتهم ، أتبع ذلك بدليله من أنهم لا يتوصلون بها إلى جهاد ، ولا يتوسلون إلى دار المعاد ، فقال عاطفاً على ما أفهمه السياق من نحو أن يقال لأنهم لا يفعلون بها خيراً ولا يكسبون أجراً ، أو بانياً حالاً من الكاف في " تعجبك " : { وإذا أنزلت سورة } أي وقع إنزال قطعة من القرآن . ولما كان الإنزال يدل على المنزل حتماً ، فسره بقوله : { أن آمنوا بالله } أي الذي له الكمال كله { وجاهدوا } أي أوقعوا الجهاد { مع رسوله استأذنك } أي في التخلف من لا عذر له وهم { أولوا الطول } أي أهل الفضل من الأموال والسعة والثروة في غالب الأحوال { منهم } وخصهم بالذكر لأن الذم لهم ألزم ولا سيما بعد سماع القرآن ، ويجوز أن يكون معطوفاً على خبر { أن } في قوله { ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله } هذا مع ما تضمن استئذانهم من رذائل الأخلاق ودنايا الهمم المحكي بقوله : { وقالوا ذرنا } أي اتركنا ولو على حالة سيئة { نكن } أي بما يوافق جبلاتنا { مع القاعدين * } أي بالعذر المتضمن - لاسيما مع التعبير بذرنا الذي مادته تدور على ما يكره دون " دعنا " - لما استأنف به أو بين من قوله : { رضوا بأن يكونوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { مع الخوالف } أي النساء { وطبع } أي وقع الطبع المانع { على قلوبهم } أي حتى رضوا لأنفسهم بالتخلف عن سبب السعادة مع الكون في عداد المخدرات بما هو عار في الدنيا ونار في العقبى . ولما أبهم فاعل الطبع ، نفى دقيق العلم فقال : { فهم } أي بسبب هذا الطبع { لا يفقهون * } أي لا فقه لهم يعرفون به ما في الجهاد من العز والسعادة في الدارين ، وما في التخلف من الشقاء والعار فلذلك لا يجاهدون ، فلا شيء أضر من هذه الأموال والأولاد التي أبعدت عن الممادح وألزمت المذام والقوادح ، فقد اكتنفت آية الأموال في أول قصة وآخرها ما يدل على مضمونها . ولما افتتح القصة بمدح المتقين لمسابقتهم إلى الجهاد من دون استئذان ختمها بذلك وذكر ما أعد لهم فقال معلماً بالغنى عنهم بمن هو الخير المحض تبكيتاً لهم وتقريعاً : { لكن الرسول } أي والذي بعثه لرد العباد عن الفساد إلى السداد { والذين آمنوا } أي إيماناً عظيماً كائناً أو كائنين { معه } أي مصاحبين له ذاتاً وحالاً في جميع ما أرسلناه إليهم به { جاهدوا بأموالهم وأنفسهم } أي بذلوا كلاًّ من ذلك في حبه صلى الله عليه وسلم فتحققوا بشرط الإيمان و " لكن " واقعة موقعها بين متنافسين لأن ما مضى من حالهم كله ناطق بأنهم لم يجاهدوا . ولما كان السياق لبخلهم بالنفس والمال ، ولسلب النفع من أموالهم وأولادهم ، اقتصر في مدح أوليائه على الجهاد بالنفس والمال ولم يذكر السبيل وقال : { أولئك } دالاً على أنه معطوف على ما تقديره : فأولئك الذين نورت قلوبهم فهم يفقهون ، وقوله : { لهم } أي لا لغيرهم { الخيرات } تعرض بذوي الأموال من المنافقين لأن الخير يطلق على المال وتحليته بـ " ال " على استغراقه لجميع منافع الدارين ، والتعبير بأداة البعد إشارة إلى علو مقام أوليائه وبعد مناله إلا بفضل منه تعالى ، وكذا التعريض بهم بقوله : { وأولئك هم } أي خاصة { المفلحون * } أي الفائزون بجميع مرادهم ، لا غيرهم ؛ ثم بين الإفلاح الأعظم بقوله : { أعد الله } أي الذي له صفات الكمال { لهم } أي الآن لينعمهم بها بعد موتهم وانتقالهم من هذه الدار التي هي معدن الأكدار { جنات تجري } أي دائماً { من تحتها } أي مع قربها { الأنهار } ثم عرض بهذه الدنيا السريعة الزوال فقال : { خالدين فيها } ثم رغب فيها بقوله : { ذلك } أي الأمر العالي الرتبة { الفوز العظيم * } أي لا غيره . ولما ختم قصص أهل المدر بذم أولي الطول منهم بتخلفهم ، وكان ذمهم إنما هو لكونهم قادرين على الخروج في ذلك الوجه ، وقدمهم لكثرة سماعهم للحكمة ، وكان أهل الوبر أقدر الناس على السفر لأن مبنى أمرهم على الحل والارتحال ، فهم أجدر بالذم لأنهم في غاية الاستعداد لذلك ، تلاهم بهم فقال : { وجاء المعذرون } أي المبالغون في إثبات الخفايا من الأعذار المانعة لهم من الجهاد - بما أشار إليه الإدغام ، وحقيقة المعذر أن يتوهم أن له عذراً ولا عذر له ، والعذر : إيساع الحيلة في وجه يدفع ما ظهر من التقصير { من الأعراب } قيل : هم رهط عامر بن الطفيل من بني عامر ، وقيل : اسد وغطفان ، قيل : رهط من غفار { ليؤذن } أي ليقع الإذن من أي آذن كان في تخلفهم عن الغزو { لهم } أي فاعتذروا بما كذبوا فيه وقعدوا عن الغزو معك ، هكذا كان الأصل فوضع موضعة : { وقعد الذين كذبوا الله } أي وهو المحيط علماً وقدرة { ورسوله } تنبيهاً على وصفهم وليكون أظهر في شمول الأعراب وغيرهم . ولما كان منهم المحتوم بكفره وغيره قال : { سيصيب } أي بوعد لا خلف فيه { الذين كفروا } أي حتم بكفرهم { منهم عذاب أليم * } أي في الدارين . ولما كان من القاعدين من أهل المدر والوبر من له عذر ، استثناهم سبحانه وساق ذلك مساق النتيحة من المقدمات الظاهرة فقال : { ليس على الضعفاء } أي بنحو الهرم { ولا على المرضى } أي بنحو الحمى والرمد { ولا على الذين لا يجدون } ولو بدين يؤدونه في المستقبل { ما ينفقون } أي لحاجتهم وفقرهم { حرج } أي إثم يميل بهم عن الصراط المستقيم ويخرج دينهم . ولما كان ربما كان أحد من المنافقين بهذ الصفة احترز عنه بقوله : { إذا نصحوا } أي في تخلفهم وجميع أحوالهم { لله } أي الذي له الجلال والإكرام { ورسوله } أي سراً وعلانية ، فإنهم حيئنذ محسنون في نصحهم الذي منه تحسرهم على القعود على هذا الوجه وعزمهم على الخروج متى قدروا ، وقوله : { ما على المحسنين } في موضع " ما عليهم " لبيان إحسانهم بنصحهم مع عذرهم { من سبيل } أي طريق إلى ذمهم أو لومهم ، والجملة كلها بيان لـ { نصحوا لله ورسوله } وقوله : { والله } أي الذي له صفات الكمال { غفور } أي محاء للذنوب { رحيم * } أي محسن مجمل إشارة إلى أن الإنسان محل التقصير والعجز وإن اجتهد ، لا يسعه إلا العفو ؛ ثم عطف على ذلك قوله : { ولا على الذين إذا } وأكد المعنى بقوله : { ما أتوك } أي ولم يأتوا بغير قصدك راغبين في الجهاد معك { لتحملهم } وهم لا يجدون محملاً { قلت } أي أتوك قائلاً أو حال قولك ، " وقد " مضمرة كما قالوا في { حصرت صدورهم } [ النساء : 90 ] { لا أجد ما } أي شيئاً { أحملكم عليه } وأجاب { إذا } بقوله ويجوز أن يكون استئنافاً و " قلت " هو الجواب { تولوا } أي عن سماع هذا القول منك { وأعينهم تفيض } أي تمتلىء فتسيل ، وإسناد الفيض إليها أبلغ من حيث أنها جعلت كلها دمعاً : ثم بين الفائض بقوله : { من الدمع } أي دمعاً والأصل : يفيض دمعها ، ثم علل فيضها بقوله ؛ { حزناً } ثم علل حزنهم بقوله : { ألا يجدوا } أي لعدم وجدانهم { ما ينفقون } فحزنهم في الحقيقة على فوات مرافقتك والكون في حزبك ، وهذه قصة الكبائين صرح بها وإن كانوا داخلين في { الذين لا يجدون } إظهاراً لشرفهم وتقريراً لأن الناصح - وإن اجتهد - لا غنى له عن العفو حيث بين أنهم - مع اجتهادهم في تحصيل الأسباب وتحسرهم عند فواتها بما أفاض أعينهم - ممن لا سبيل عليه أو ممن لا حرج عليه المغفور له . ولما نفى السبيل عمن وصفه كر على ذم من انتفى عنه هذا الوصف فقال تعالى : { إنما السبيل } أي باللوم وغيره { على الذين يستأذنونك } أي يطلبون إذنك في التخلف عنك راغبين فيه { وهم أغنياء } أي فلا عذر لهم في التخلف عنك وعدم مواساتك ، وتضمن قوله تعالى مستأنفاً : { رضوا بأن يكونوا } أي كوناً كأنه جبلة لهم { مع الخوالف } انتفاء الضعف والمرض عنهم من حيث إنه علل فعلهم برضاهم بالتخلف فأفهم ذلك أنه لا علة لهم سواه ، وأفهم أيضاً أن كل من كان كذلك كان مثلهم ولو أنه ضعيف أو مريض ، وكرر ذكر الخوالف تكريراً لعيبهم برضاهم بالكون في عداد النساء إذ كان ذلك من أعظم المعايب عند العرب ، وسمى الفاعل للطبع حيث حذفه من الأولى : ولما ذكره ، عظم الأمر فاقتضى ذلك عظم الطبع فنفى مطلق العلم فقال عاطفاً على " رضوا " : { وطبع الله } أي له القدرة الكاملة والعلم المحيط { على قلوبهم } ثم سبب عن ذلك الرضى والطبع قوله : { فهم لا يعلمون * } أي لا علم له فلذلك جهلوا ما في الجهاد من منافع الدارين لهم فلذلك رضوا بما لا يرضى به عاقل ، وهو أبلغ من نفي الفقه في الأولى ، وزاد المناسبة حسناً ضم الأعراب في هذه الآيات إلى أهل الحاضرة وهم بعيدون من الفقه جديرون بعدم العلم .