Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 2-5)
Tafsir: Iršād al-ʿaql as-salīm ilā mazāyā al-kitāb al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ يُنَزّلُ ٱلْمَلَـٰئِكَةَ } بـيانٌ لتحتم التوحيدِ حسبما نُبّه عليه تنبـيهاً إجمالياً ببـيان تقدّس جنابِ الكبرياءِ وتعاليه عن أن يحوم حوله شائبةُ أن يشاركه شيءٌ في شيء ، وإيذانٌ بأنه دينٌ أجمع عليه جمهورُ الأنبـياءِ عليهم الصلاة والسلام وأُمروا بدعوة الناسِ إليه مع الإشارة إلى سر البعثةِ والتشريعِ وكيفية إلقاءِ الوحي ، والتنبـيهِ على طريق علمِ الرسول عليه الصلاة والسلام بإتيان ما أوعدهم به وباقترابه إزاحةً لاستبعادهم اختصاصَه عليه الصلاة والسلام بذلك ، وإظهاراً لبُطلان رأيهم في الاستعجال والتكذيب ، وإيثارُ صيغةِ الاستقبال للإشعار بأن ذلك عادةٌ مستمرةٌ له سبحانه ، والمرادُ بالملائكة إما جبريلُ عليه السلام ، قال الواحدي : يسمَّى الواحدُ بالجمع إذا كان رئيساً أو هو ومَنْ معه من حفَظَة الوحي بأمر الله تعالى ، وقرىء يُنْزِل من الإنزال وتَنَزَّلُ بحذف إحدى التاءين وعلى صيغة المبني للمفعول من التنزيل { بِٱلْرُّوحِ } أي بالوحي الذي من جملته القرآنُ على نهج الاستعارةِ ، فإنه يحيـي القلوبَ الميتة بالجهل ، أو يقوم في الدين مقامَ الروح في الجسد ، والباء متعلقةٌ بالفعل أو بما هو حالٌ من مفعوله أي ملتبسين بالروح { مِنْ أَمْرِهِ } بـيان للروح الذي أريد به الوحي ، فإنه أمرٌ بالخير أو حال منه أي حالَ كونِه ناشئاً ومبتدأً منه ، أو صفةٌ له على رأي من جوّز حذفَ الموصول مع بعضِ صلته أي بالروح الكائن من أمره الناشىءِ منه ، أو متعلقٌ بـينزّل ومِنْ للسببـية كالباء مثلُ ( ما ) في قوله تعالى : { مّمَّا خَطِيئَـٰتِهِمْ } [ نوح ، الآية 25 ] أي ينزلهم بأمره { عَلَىٰ مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ } أي ينزِّلَهم به عليهم لاختصاصهم بصفات تؤهّلهم لذلك { أَنْ أَنْذِرُواْ } بدلٌ من الروح ، أي ينزّلهم ملتبسين بأن أنذِروا أي بهذا القول ، والمخاطَبون به الأنبـياءُ الذين نزلت الملائكةُ عليهم ، والآمرُ هو الله سبحانه والملائكةُ نَقَلةٌ للأمر كما يُشعر به الباء في المبدَل منه ، و ( أنْ ) إما مخففةٌ من أنّ وضميرُ الشأن الذي هو اسمُها محذوفٌ ، أي ينزلهم ملتبسين بأن الشأنَ أقول لكم : أنذِروا ، أو مفسّرةٌ على أن تنزيلَ الملائكة بالوحي فيه معنى القولِ ، كأنه قيل : يقول بواسطة الملائكةِ لمن يشاء من عباده : أنذروا فلا محل لها من الإعراب ، أو مصدريةٌ لجواز كون صلتِها إنشائيةً كما في قوله تعالى : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ } [ يونس ، الآية 105 ] حسبما ذكر في أوائل سورة هودٍ فمحلُّها الجرُّ على البدلية أيضاً ، والإنذارُ الإعلام خلا أنه مختصٌّ بإعلام المحذورِ من نذر بالشيء إذا علمه فحذِرَه ، وأنذره بالأمر إنذاراً أي أعلمه وحذره وخوفه في إبلاغه كذا في القاموس أي أعلِموا الناس { أَنَّهُ لا إِلَـٰهَ إِلا أَنَاْ } فالضمير للشأن ، ومدارُ وضعِه موضعَه ادعاءُ شهرتِه المغنيةِ عن التصريح به ، وفائدةُ تصديرِ الجملة به الإيذانُ من أول الأمر بفخامة مضمونِها مع ما فيه من زيادة تقريرٍ له في الذهن ، فإن الضميرَ لا يفهم منه ابتداءً إلا شأنٌ مبهمٌ له خطر ، فيبقى الذهنُ مترقباً لما يعقُبه مترقباً فيتمكن لديه عند وروده فضلُ تمكن ، كأنه قيل : أنذروا أن الشأنَ الخطير هذا ، وإنباءُ مضمونِه عن المحذور ليس لذاته بل من حيث اتصافُ المنذَرين بما يضادُّه من الإشراك وذلك كافٍ في كون إعلامِه إنذاراً ، وقوله سبحانه : { فَٱتَّقُونِ } خطابٌ للمستعجِلين على طريقة الالتفاتِ ، والفاءُ فصيحةٌ أي إذا كان الأمر كما ذكر من جريان عادتِه تعالى بتنزيل الملائكةِ على الأنبـياء عليهم السلام وأمرِهم بأن ينذِروا الناسِ أنه لا شريك له في الألوهية ، فاتقون في الإخلال بمضمونه ومباشرةِ ما ينافيه من الإشراك وفروعِه التي من جملتها الاستعجالُ والاستهزاءُ . وبعد تمهيدِ الدليل السمعيِّ للتوحيد شُرِع في تحرير الأدلة العقلية فقيل : { خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقّ } أي أوجدهما على ما هما عليه من الوجه الفائق والنمطِ اللائق { تَعَالَى } وتقدّس بذاته لا سيما بأفعاله التي من جملتها إبداعُ هذين المخلوقين { عَمَّا يُشْرِكُونَ } عن إشراكهم المعهودِ أو عن شركة ما يشركونه به من الباطل الذي لا يُبدىء ولا يعيد ، وبعد ما نبّه على صنعه الكليِّ المنطوي على تفاصيل مخلوقاتِه شرَع في تعداد ما فيه من خلائقه فبدأ بفعله المتعلق بالأنفس فقال : { خَلَقَ ٱلإِنسَـٰنَ } أي هذا النوعَ غيرَ الفرد الأول منه { مِن نُّطْفَةٍ } جماد لا حسَّ له ولا حَراكَ ، سيالٍ لا يحفظ شكلاً ولا وضعاً { فَإِذَا هُوَ } بعد الخلق { خَصِيمٌ } مِنطيقٌ مجادِلٌ عن نفسه مكافِحٌ للخصوم { مُّبِينٌ } لحجته لقِنٌ بها ، وهذا أنسبُ بمقام الامتنانِ بإعطاء القدرة على الاستدلال بذلك على قدرته تعالى ووحدتِه ، أو مخاصمٌ لخالقه منكِرٌ له قائلٌ : { مَن يُحييِ ٱلْعِظَـٰمَ وَهِىَ رَمِيمٌ } [ يس : 78 ] وهذا أنسبُ بمقام تعداد هَناتِ الكفرة . روي أن أُبـيَّ بنَ خلفٍ الجُمَحي أتى النبـيَّ عليه السلام بعظم رميم فقال : يا محمد أترى الله تعالى يحيـي هذا بعد ما قد رمّ فنزلت { وَٱلأنْعَـٰم } وهي الأزواجُ الثمانية من الإبل والبقر والضأن والمعَزِ ، وانتصابُها بمضمر يفسره قوله تعالى : { خَلَقَهَا } أو بالعطف على الإنسان ، وما بعده بـيانُ ما خُلق لأجله والذي بعده تفصيلٌ لذلك ، وقوله تعالى : { لَكُمْ } إما متعلقٌ بخلَقها ، وقوله : { فِيهَا } خبرٌ مقدم ، وقوله : { دِفْء } مبتدأٌ وهو ما يُدفأ به فيقي من البرد ، والجملةُ حالٌ من المفعول أو الظرفُ الأول خبرٌ للمبتدأ المذكور ، وفيها حال من دفء إذ لو تأخر لكان صفة { وَمَنَـٰفِعُ } هي دَرّها ورُكوبها وحملُها والحِراثة بها وغيرُ ذلك ، وإنما عبّر عنها بها ليتناول الكل مع أنه الأنسب بمقام الامتنان بالنعم ، وتقديمُ الدفء على المنافع لرعاية أسلوب الترقي إلى الأعلى { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } أي تأكُلون ما يؤكل منها من اللحوم والشحوم وغيرِ ذلك ، وتغيـيرُ النظم للإيماء إلى أنها لا تبقىٰ عند الأكل كما في السابق واللاحقِ ، فإن الدفءَ والمنافعَ والجَمال يحصل منها وهي باقيةٌ على حالها ، ولذلك جُعلت محالَّ لها بخلاف الأكل ، وتقديمُ الظرف للإيذان بأن الأكلَ منها هو المعتادُ المعتمدُ في المعاش لأن الأكلَ مما عداها من الدجاج والبط وصيد البرِّ والبحرِ من قبـيل التفكّه مع أن فيه مراعاةً للفواصل ، ويحتمل أن يكون معنى الأكلِ منها أكلَ ما يحصل بسببها فإن الحبوبَ والثمارَ المأكولة تُكتسب بإكراء الإبلِ وبإثمار نِتاجها وألبانها وجلودها .