Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 6, Ayat: 10-12)
Tafsir: Iršād al-ʿaql as-salīm ilā mazāyā al-kitāb al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ وَلَقَدِ ٱسْتُهْزِىء بِرُسُلٍ مّن قَبْلِكَ } تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من قومه ، وفي تصدير الجملة بلام القسم وحرفِ التحقيق من الاعتناء به ما لا يخفى ، وتنوينُ ( رسل ) للتفخيم والتكثير ، و ( من ) ابتدائية متعلقة بمحذوفٍ وقع صفةً لرسل ، أي وبالله لقد استهزىء برسل أولي شأنٍ خطيرٍ وذوي عددٍ كثير كائنين من زمانٍ قبلَ زمانك ، على حذف المضاف وإقامةِ المضاف إليه مُقامَه { فَحَاقَ } عَقيبه أي أحاط أو نزل أو حلَّ أو نحوُ ذلك ، فإن معناه يدور على الشمول واللزوم ، ولا يكاد يُستعمل إلا في الشر ، والحَيْق ما يشتمل على الإنسان من مكروهِ فِعْلِه وقوله تعالى : { بِٱلَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُمْ } أي استهزأوا بهم من أولئك الرسل عليهم السلام متعلق بحاق ، وتقديمُه على فاعله الذي هو قوله تعالى : { مَّا كَانُوا بِهِ } للمسارعة إلى بـيان لحوق الشر بهم ، و ( ما ) إما موصولةٌ مفيدةٌ للتهويل ، أي فأحاط بهم الذي كانوا يستهزؤون به حيث أُهلكوا لأجله ، وإما مصدريةٌ أي فنزل بهم وَبالُ استهزائهم ، وتقديم الجار والمجرور على الفعل لرعاية الفواصل . { قُلْ سِيرُواْ فِي ٱلأَرْضِ } بعد بـيانِ ما فعلت الأممُ الخالية وما فُعل بهم خوطب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه ، وتذكيرِهم بأحوالهم الفظيعة تحذيراً لهم عما هم عليه ، وتكملةً للتسلية بما في ضِمْنه من العِدَة اللطيفة بأنه سيَحيقُ بهم مثلُ ما حاق بأضرابهم الأولين ، ولقد أنجَز ذلك يومَ بدرٍ أيَّ إنجازٍ ، أي سيروا في الأرض لتعرِفوا أحوال أولئك الأمم { ثُمَّ ٱنْظُرُواْ } أي تفكروا { كَيْفَ كَانَ عَـٰقِبَةُ ٱلْمُكَذّبِينَ } وكلمة ( ثم ) إما لأن النظر في آثار الهالكين لا يتسنّى إلا بعد انتهاء السير إلى أماكنهم ، وإما لإبانة ما بـينهما من التفاوت في مراتب الوجوب وهو الأظهر ، فإن وجوب السير ليس إلا لكونه وسيلةً إلى النظر كما يفصح عنه العطف بالفاء في قوله عز وجل : { فَٱنظُرُواْ } [ سورة آل عمران : الآية 137 ] الآية ، وإما أن الأمر الأول لإباحة السير للتجارة ونحوها ، والثاني لإيجاب النظر في آثارهم ، و ( ثم ) لتُباعِدَ ما بـين الواجب والمباح فلا يناسب المقام ، و ( كيف ) معلِّقةٌ لفعل النظر ، ومحلُ الجملة النصبُ بنزع الخافض أي تفكروا في أنهم كيف أُهلكوا بعذاب الاستئصال ، والعاقبة مصدرٌ كالعافية ونظائرِها ، وهي منتهىٰ الأمرِ ومآلُه ، ووضعُ المكذبـين موضعَ المستهزئين لتحقيق أن مدارَ إصابةِ ما أصابهم هو التكذيبُ لينزجِرَ السامعون عنه لا عن الاستهزاء فقط ، مع بقاء التكذيب بحاله بناءً على توهُّم أنه المدار في ذلك . { قُلْ } لهم بطريق الإلجاء والتبكيت { لّمَن مَّا فِى ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْض } من العقلاء وغيرِهم ، أي لمن الكائناتُ جميعاً خلْقاً ومُلكاً وتصرّفاً ؟ وقوله تعالى : { قُل لِلَّهِ } تقريرٌ لهم وتنبـيهٌ على أنه المتعيَّنُ للجواب بالاتفاق بحيث لا يتأتّى لأحد أن يُجيب بغيره كما نطق به قوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضَ لَيَقُولُنَّ ٱللَّهُ } [ لقمان ، الآية 25 ] وقوله تعالى : { كَتَبَ عَلَىٰ نَفْسِهِ ٱلرَّحْمَةَ } جملةٌ مستقلة داخلة تحت الأمر ناطقةٌ بشمول رحمتِه الواسعةِ لجميع الخلق شمولَ مُلكِه وقدرته للكلِّ ، مَسوقةٌ لبـيانِ أنه تعالى رؤوفٌ بعباده لا يعجَلُ عليهم بالعقوبة بل يقبل منهم التوبةَ والإنابةَ ، وأن ما سبق ذكرُه وما لحِقَ من أحكام الغضب ليس من مقتَضيَات ذاتِه تعالى ، بل من جهة الخَلْق ، كيف لا ومن رحمتِه أن خلقَهم على الفطرة السليمة وهداهم إلى معرفته وتوحيدِه بنَصْب الآياتِ الأنفسية والآفاقية ، وإرسالِ الرسل ، وإنزالِ الكُتب المشحونة بالدعوة إلى موجباتِ رِضوانِه ، والتحذيرِ عن مقتَضيَات سُخْطِه ، وقد بدّلوا فطرةَ الله تبديلاً ، وأعرَضوا عن الآياتِ بالمرة ، وكذّبوا بالكتب واستهزأوا بالرسل ، وما ظلمهم الله ولكن كانوا هم الظالمين ، ولولا شمولُ رحمتِه لسلك بهؤلاءِ أيضاً مَسلكَ الغابرين . ومعنى كتب على نفسه الرحمة أنه تعالى قضاها وأوجبها بطريق التفضُّل والإحسانِ على ذاته المقدّسةِ بالذات لا بتوسُّط شيءٍ أصلاً ، وقيل : هو ما رُوي عن أبـي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لمَّا قضى الله تعالى الخلقَ كتَبَ في كتابٍ فهو عنده فوق العرش ، إنَّ رحمتي غلبتْ غضبـي " وعن عمرَ رضي الله عنه " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لكعب : « ما أولُ شيءٍ ابتدأه الله تعالى مِنْ خلقه ؟ » فقال كعب : كتب الله كتاباً لم يكتبْه بقلم ولا مِدادٍ كتابةَ الزَّبَرْجد واللؤلؤ والياقوت : « إني أنا الله لا إلٰه إلا أنا سبقت رحمتي غضبـي » " ومعنى سبْقِ الرحمةِ وغَلَبتِها أنها أقدمُ تعلُّقاً بالخلق وأكثرُ وصولاً إليهم مع أنها من مقتضيات الذاتِ المُفضيةِ للخير ، وفي التعبـير عن الذات بالنفس حجةٌ على من ادّعى أن لفظَ النفسِ لا يُطلق على الله تعالى وإن أريد به الذاتُ إلا مشاكلةً لِما ترَى من انتفاءِ المشاكلة هٰهنا بنَوْعَيْها ، وقوله تعالى : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ } جوابُ قسمٍ محذوف ، والجملة استئنافٌ مسوقٌ للوعيد على إشراكهم وإغفالِهم النظرَ ، أي والله ليجمعنّكم في القبور مبعوثين أو محشورين إلى يوم القيامة فيجازيكم على شِرْككم وسائرِ معاصيكم وإن أمهلكم بموجَب رحمتِه ولم يعاجِلْكم بالعقوبة الدنيوية وقيل : ( إلى ) بمعنى اللام ، أي ليجمعنكم ليوم القيامة كقوله تعالى : { إِنَّكَ جَامِعُ ٱلنَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } [ آل عمران ، الآية 9 ] وقيل : هي بمعنى في أي ليجمعنكم في يوم القيامة { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي في اليوم أو في الجمع . وقوله تعالى : { ٱلَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم } أي بتضيـيع رأسِ مالهم وهو الفطرةُ الأصليةُ والعقلُ السليم والاستعدادُ القريبُ الحاصلُ من مشاهدة الرسول عليه الصلاة والسلام ، واستماعِ الوحْي وغيرِ ذلك من آثار الرحمة ، في موضع النصْب أو الرفعِ على الذم أي أعني الذين الخ ، أو هو مبتدأ والخبر قوله تعالى : { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } والفاء لتضمُّن المبتدأ معنى الشرط ، والإشعارُ بأن عدمَ إيمانهم بسبب خُسرانهم ، فإن إبطالَ العقل باتباع الحواسِّ والوهم والانهماك في التقليد ، وإغفالِ النظر أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر ، والامتناعِ من الإيمان . والجملةُ تذيـيلٌ مَسوقٌ من جهته تعالى لتقبـيح حالهم غيرُ داخلٍ تحت الأمر .