Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 124-126)

Tafsir: Laṭāʾif al-išārāt bi-tafsīr al-Qurʾān

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قوله جلّ ذكره : { وَإِذِ ٱبْتَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } . البلاء تحقيق الولاء ، فأصدقهم ولاءً أشدُّهم بلاء . ولقد ابتلى الحق - سبحانه - خليلَه عليه السلام بما فرض عليه وشرع له ، فقام بشرط وجوبها ، ووَفَّى بحكم مقتضاها ، فأثنى عليه سبحانه بقوله : { وَإِبْرَاهِيمَ ٱلَّذِي وَفَّىٰ } [ النجم : 37 ] - من التوفيه - أي لم يُقَصِّر بوجهٍ ألبتة . يقال حملَّه أعباء النبوة ، وطالبه بأحكام الخُلَّة ، وأشد بلاء له كان قيامه بشرائط الخلة ، والانفراد له بالتجافي عن كل واحد وكل شيء ، فقام بتصحيح ذلك مختليًا عن جميع ما سواه ، سِرًّا وعَلَنًا . كذلك لم يلاحظ جبريلَ عليه السلام حين تعرض له وهو يُقْذف في لُجة الهلاك ، فقال : هل من حاجة ؟ فقال : أمَّا إِليكَ … فلا . ومن كمال بلائه تعرض جبريل عليه السلام في تلك الحالة ، وأي بقية كانت بقيت له منه حتى يكون لمخلوق فيه مساغ كائنًا من كان ؟ ! وفي هذا إشارة دقيقة إلى الفَرْقِ بين حال نبيِّنا صلى الله عليه وسلم وحال إبراهيم عليه السلام ، لأنه تعرض جبريل للخليل وعَرَضَ عليه نفسه : فقال : أمَّا إليكَ … فَلاَ . ولم يُطِقْ جبريل صحبة النبي صلى الله عليه وسلم فنطق بلسان العجز وقال : لو دنوتُ أنملة لاحترقتُ . وشتّان بين حالة يكون فيها جبريل عليه السلام من قُوَّتِه بحيث يعرض للخليل عليه السلام نفسه ، وبين حالةٍ يعترف للحبيب - صلوات الله عليه - فيها بعجزه . قوله جلّ ذكره : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ * وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } . الإمام مَنْ يُقْتَدى به ، وقد حقَّق له هذا حتى خاطب جميع الخلائق إلى يوم القيامة بالاقتداء به فقال : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] أي اتبعوا ملة إبراهيم يعني التوحيد ، وقال : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } . هذا هو تحقيق الإمامة . ورتبة الإمامة أن يَفْهَم عن الحق ثم يُفْهِمَ الخَلق ؛ فيكون واسطة بين الحق والخَلْق ، يكون بظاهره مع الخَلْق لا يفتر عن تبليغ الرسالة ، وبباطنه مشاهدًا للحق ، لا يتغير له صفاء الحالة ، ويقول للخلْق ما يقوله له الحق . قوله جلّ ذكره : { وَمِن ذُرِّيَّتِي } . نطق بمقتضى الشفقة عليهم ، فطلب لهم ما أُكرِم به . فأخبره أن ذلك ليس باستحقاق نَسَب ، أو باستيجاب سبب ، وإنما هي أقسام مضت بها أحكام فقال له : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } وليس هذا كنعيم الدنيا وسعة الأرزاق فيها ، فهي لا ادِّخَار لها عن أحد وإن كان كافرًا ، ولذلك قال جلّ ذكره : { وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ } . فقال الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً } . يعني ليس للدنيا من الخطر ما يمنعها عن الكفار ، ولكن عهدي لا يناله إلا مَنْ اخترته مِنْ خواص عبادي . أمَّا الطعام والشراب فغير ممنوع من أحد . أمَّا الإسلام والمحاب فغير مبذول لكل أحد . قوله جلّ ذكره : { وَإِذْ جَعَلْنَا ٱلْبَيْتَ مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } . واذكر يا محمد حين جعلنا البيت - يعني الكعبة - مثابة للناس إليه يثوبون ، ومأمنًا لهم إليه يرجعون ، وإياه من كل نحوٍ يقصدون . هو بيت خلقتُه من الحجر ولكن أضفته إلى الأزل ؛ فمن نظر إلى البيت بعين الخِلْقَة انفصل ، ومن نظر إليه بعين الإضافة وصل واتصل ، وكلُّ من التجأ إلى ذلك البيت أَمِنَ من عقوبة الآخرة إذا كان التجاؤه على جهة الإعظام والاحترام ، والتوبة عن الآثام . ويقال بُنيَ البيتُ من الحجر لكنه حجر يجذب القلوب كحجر المغناطيس يجذب الحديد . بيتٌ من وقع عليه ظِلُّه أناخ بعَقْوَةِ الأمن . بيتٌ مَنْ وقع عليه طَرْفُه بُشِّرَ بتحقيق الغفران . بيتٌ مَنْ طاف حَوْلَه طافت اللطائف بقلبه ، فطَوْفَة بطوفة ، وشَوْطة بشوطة وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان . بيتٌ ما خَسِرَ مَنْ أنفق على الوصول إليه مَالَه . بَيت ما ربح مَنْ ضَنَّ عليه بشيءٍ ؛ مَنْ زاره نَسِيَ مزارَه ، وهجر ديارَه . بيت لا تُسْتَبْعَدُ إليه المسافة ، بيت لا تُنْرَك زيارته لحصول مخافة ، أو هجوم آفة ، بيت ليس له بمهجة الفقراء آفة . بيت من قعد عن زيارته فَلِعدَمِ فُتَوَّتِه ، أو لقلة محبته . بيتٌ من صَبِرَ عنه فقلبه أقسى من الحجارة . بيت من وقع عليه شعاعُ أنواره تَسَلَّى عن شموسه وأقماره . بيت ليس العجب ممن بقي ( عنه ) كيف يصبر ، إنما العجب ممن حضره كيف يرجع ! قوله جلّ ذكره : { وَٱتَّخِذُواْ مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } . عَبْدٌ رفع لله سبحانه قَدمًا فإلى القيامة جعل أثر قَدَمِه قِبْلَةً لجميع المسلمين إكرامًا لا مدى له . قوله جلّ ذكره : { وَعَهِدْنَآ إِلَىٰ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَٱلْعَاكِفِينَ وَٱلرُّكَّعِ ٱلسُّجُودِ * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً وَٱرْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ ٱلثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَىٰ عَذَابِ ٱلنَّارِ وَبِئْسَ ٱلْمَصِيرُ } . الأمر في الظاهر بتطهير البيت ، والإشارة من الآية إلى تطهير القلب . وتطهير البيت بِصَوْنه عن الأدناس والأوضار ، وتطهير القلب بحفظه عن ملاحظة الأجناس والأغيار . وطوافُ الحجاج حول البيت معلومٌ بلسان الشرع ، وطوافُ المعاني معلومٌ لأهل الحق ؛ فقلوب العارفين المعاني فيها طائفة ، وقلوب الموحدين الحقائق فيها عاكفة ، فهؤلاء أصحاب التلوين وهؤلاء أرباب التمكين . وقلوبُ القاصدين بملازمة الخضوع على باب الجود أبدًا واقفة . وقلوب الموحدِّين على بساط الوصل أبدًا راكعة . وقلوب الواجدين على بساط القرآن أبدًا ساجدة . ويقال صواعد نوازع الطالبين بباب الكرم أبدًا واقفة ، وسوامي قصود المريدين بمشهد الجود أبدًا طائفة ، ووفود هِمَمِ العارفين بحضرة العِزِّ أبداً عاكفة … قوله جلّ ذكره : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ ٱجْعَلْ هَـٰذَا بَلَداً آمِناً } . السؤال إذا لم يكن مشوبًا بحظِّ العبد كان مستجابًا ، ولم يكن سؤال إبراهيم هذا لحظِّ نفسه ، وإنما كان لِحقِّ ربِّه عزَّ وجلَّ . ولمَّا حفظ شرط الأدب طلب الرزق لمن آمن منهم على الخصوص أجيب فيهم وفي الذين لم يؤمنوا . ولمَّا قال في حديث الإمامة : " ومن ذُرِّيتي " من غير إذن مُنِعَ وقيل له : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي ٱلظَّالِمِينَ } .