Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 3-3)
Tafsir: Laṭāʾif al-išārāt bi-tafsīr al-Qurʾān
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قوله جلّ ذكره : { ٱلَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِٱلْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ ٱلصَّلٰوةَ } . حقيقة الإيمان التصديق ثم التحقيق ، وموجب الأمرين التوفيق . والتصديق بالعقل والتحقيق ببذل الجهد ، في حفظ العهد ، ومراعاة الحد . فالمؤمنون هم الذين صدَّقوا باعتقادهم ثم الذين صَدَقُوا في اجتهادهم . وأمَّا الغيب فما يعلمه العبد مما خرج عن حد الاضطرار ؛ فكل أمر ديني أدركه العبد بضرب استدلال ، ونوع فكر واستشهاد فالإيمان به غَيْبِيُّ . فالرب سبحانه وتعالى غيب . وما أخبر الحق عنه من الحشر والنشر ، والثواب والمآب ، والحساب والعذاب - غيب . وقيل إنما يؤمن بالغيب من كان معه سراج الغيب ، وأن من أيّدوا ببرهان العقول آمنوا بدلالة العلم وإشارة اليقين ، فأوْرَدَهم صدقُ الاستدلال ساحاتِ الاستبصار ، وأوصلهم صائبُ الاستشهاد إلى مراتب السكون ؛ فإيمانهم بالغيب بمزاحمة علومهم دواعي الريب . ومن كوشف بأنواع التعريف أسبل عليهم سجوف الأنوار ، فأغناهم بلوائح البيان عن كل فكر وروية ، وطلب بخواطر ذكية ، وردِّ وردع لدواعٍ ردية ، فطلعت شموس أسرارهم فاستغنوا عن مصابيح استدلالهم ، وفي معناه أنشدوا : @ لَيْلِي من وجهك شمس الضحا وظلامه في الناس ساري والنـاس فـي سـدف الظـلا م ونحن في ضوء النهـار @@ وأنشدوا : @ طلعت شمس من أحبَّك ليلاً فاستضاءت وما لها من غروب إن شمس النهار تغرب بالليل وشمس القلوب ليست تغيب @@ ومن آمن بالغيب بشهود الغيب غاب في شهود الغيب فصار غيباً يغيب . وأمَّا إقامة الصلاة فالقيام بأركانها وسننها ثم الغيبة عن شهودها برؤية مَنْ يُصَلَّى له فيحفظ عليه أحكام الأمر بما يجري عليه منه ، وهو عن ملاحظتها محو ، فنفوسهم مستقبلة القِبْلة ، وقلوبهم مستغرقة في حقائق الوصلة : @ أراني إذا صَلَّيْت يَمَّمْت نحوها بوجهي وإنْ كان المُصَلَّى ورائيا أصلي فلا أدري إذا ما قضيتها اثنتين صليت الضحا أم ثمانيا ؟ @@ وإن أصحاب العموم يجتهدون عند افتتاح الصلاة ليردوا قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون من الفرض ، ولكن عن أودية الغفلة ما يرجعون . أما أهل الخصوص فيردون قلوبهم إلى معرفة ما يؤدون ولكن عن حقائق الوصلة ما يرجعون ؛ فشتَّان بين غائبٍ يحضر أحكام الشرع ولكن عند أوطان الغفلة ، وبين غائبٍ يرجع إلى أَحكام الشرع ولكن عند حقائق الوصلة . قوله جلّ ذكره : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } . الرزق ما تمكَّن الإنسان من الانتفاع به ، وعلى لسان التفسير أنهم ينفقون أموالهم إمَّا نَفْلاً وإما فرضاً على موجب تفصيل العلم . وبيان الإشارة أنهم لا يدخرون عن الله سبحانه وتعالى شيئاً من ميسورهم ؛ فينفقون نفوسهم في آداب العبودية ، وينفقون قلوبهم على دوام مشاهدة الربوبية . فإنفاق أصحاب الشريعة من حيث الأموال ، وإنفاق أرباب الحقيقة من حيث الأحوال ، فهؤلاء يكتفي منهم عِشْرين بنصفٍ ومن المائتين بِخَمس ، وعلى هذا السَّنَن جميع الأموال يعتبر فيه النِّصاب . وأمَّا أهل الحقائق فلو جعلوا من جميع أحوالهم - لأنفسهم ولحظوظهم - لحظةً قامت عليهم القيامة . فصل : الزاهدون أنفقوا في طريقة متابعة هواهم ، فآثروا رضاء الله على مناهم ، والعابدون أنفقوا في سبيل الله وسعهم وقواهم ، فلازموا سراً وعلناً نفوسهم . والمريدون أنفقوا في سبيله ما يشغلهم عن ذكر مولاهم فلم يلتفتوا إلى شيء من دنياهم وعقباهم . والعارفون أنفقوا في سبيل الله ما هو سوى مولاهم فقرَّبهم الحق سبحانه وأجزاهم ، ويحكم الإفراد به لقَّاهم . فصل : الأغنياء أنفقوا من نعمهم على عاقبتهم . والفقراء أنفقوا من هممهم على مَنَابَتِهمْ . ويقال العبد بقلبه وببدنه وبماله فبإيمانهم بالغيب قاموا بقلوبهم ، وبصلاتهم قاموا بنفوسهم ، وبإنفاقهم قاموا بأموالهم ، فاستحقوا خصائص القربة من معبودهم ، وحين قاموا لِحَقِّه بالكلية استوجبوا كمال الخصوصية .