Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 19, Ayat: 16-21)
Tafsir: Tafsīr al-Qurʾān al-karīm
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
{ واذكر في الكتاب مريم إذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقيّاً } المكان الشرقي هو مكان العالم القدسي لاتصالها بروح القدس عند تجرّدها وانتباذها عن ممكن الطبيعة ومقرّ النفس وأهلها القوى النفسانية والطبيعية . والحجاب الذي اتخذته من دونهم هو حظيرة القدس الممنوع من أهل عالم النفس بحجاب الصدر الذي هو غاية مبلغ علم القوى المادية ومدى سيرها ، وما لم تترق إلى العالم القدسي بالتجرد لم يمكن إرسال روح القدس إليها ، كما أخبر عنه تعالى في قوله : { فأرسلنا إليها روحنا } وإنما تمثل لها بشراً سويّ الخلق ، حسن الصورة ، لتتأثر نفسها به وتستأنس فتتحرّك على مقتضى الجبلة ويسري الأثر من الخيال في الطبيعة فتتحرك شهوتها ، فتنزل كما يقع في المنام من الاحتلام وتنقذف نطفتها في الرحم فيتخلق منه الولد . وقد مرّ أن الوحي قريب من المنامات الصادقة لهذه القوة البدنية وتعطلها عن أفعالها عنده كما في النوم ، فكل ما يرى في الخيال من الأحوال الواردة على النفس الناطقة المسماة في اصطلاحنا : قلباً ، والاتصالات التي لها بالأرواح القدسية يسري في النفس الحيوانية والطبيعية وينفعل منه البدن . وإنما أمكن تولد الولد من نطفة واحدة لأنه ثبت في العلوم الطبيعية أن منيّ الذكر في تكوّن الولد بمنزلة الأنفحة في الجبن ، ومنيّ الأنثى بمنزلة اللبن أي : العقد من منيّ الذكر ، والانعقاد من منّي الأنثى لا على معنى أنّ منيّ الذكر ينفرد بالقوة العاقدة ومنيّ الأنثى بالقوة المنعقدة . بل على معنى أنّ القوة العاقدة في منيّ الذكر أقوى والمنعقدة في منيّ الأنثى أقوى وإلا لم يمكن أن يتحدا شيئاً واحداً . ولم ينعقد منيّ الذكر حتى يصير جزء من الولد ، فعلى هذا إذا كان مزاج الأنثى قوياً ذكورياً كما تكون أمزجة النساء الشريفة النفس ، القوية القوى ، وكان مزاج كبدها حارّاً كان المنيّ المنفصل عن كليتها اليمنى أحرّ كثيراً من الذي ينفصل عن كليتها اليسرى ، فإذا اجتمعا في الرحم وكان مزاج الرحم قوياً في الإمساك والجذب . قام المنفصل من الكلية اليمنى مقام الذكر في شدّة قوة العقد والمنفصل من الكلية اليسرى مقام منيّ الأنثى في قوة الانعقاد فيتخلق الولد ، هذا وخصوصاً إذا كانت النفس متأيدة بروح القدس ، متقوية ، يسري أثر اتصالها به إلى الطبيعة والبدن ويغير المزاج ويمدّ جميع القوى في أفعالها بالمدد الروحاني فيصير أقدر على أفعالها بما لا ينضبط بالقياس والله أعلم . { ولنجعله آية للناس } دالة على البعث والنشور { ورحمة منا } عليهم بتكميلهم به بالشرائع والحكم والمعارف وهدايتهم بسبب فعلنا ذلك فهو صورة الرحمة الإلهية المعنوية { وكان أمراً مقضيّاً } في اللوح ، مقدراً في الأزل . وعن ابن عباس : فاطمأنت إليه بقوله : { إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاماً زكياً } فدنا منها ، فنفخ في جيب الدرع ، أي : البدن ، وهو سبب إنزالها على ما ذكرنا كالغلمة مثلاً والمعانقة التي كثيراً ما تصير سبباً للإنزال . وقيل : إن الروح المتمثل لها هو روح عيسى عليه السلام عند نزوله واتصاله بها وتعلقه بنطفتها ، والحق إنه روح القدس لأنه كان السبب الفاعلي لوجوده ، كما قال : { لأهب لك غلاماً زكياً } .