Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 100, Ayat: 1-11)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { والعادياتِ ضَبْحاً } ، أقسم تعالى بخيل الغزاة تعدو فتضبَح ، والضبح : صوت أنفاسها إذا عَدَون ، وحكى صوتها ابنُ عباس ، فقال : أحْ ، أحْ . وانتصاب " ضبحاً " على المصدر ، أي : يضبحن ضبحاً ، أو : بالعاديات ، فإنَّ العَدْو يستلزم الضبح ، كأنه قيل : والضابحات ضبحاً ، أو : حال ، أي : ضابحات . { فالمُورِيات قَدْحاً } الإيراء : إخراج النار والقدح : الصكّ يقال : قدح فأوْرى ، أي : فالتي تُوري النارَ من حوافرها عند العَدْو . وانتصاب " قدحاً " كانتصاب ضبحاً . { فالمُغيراتِ } التي تغير على العدوّ ، { صُبْحاً } أي : وقت الصبح ، وهو المعتاد في الغارات ، يعدون ليلاً لئلا يشعر بهم العدو ، ويهجمون عليهم صباحاً ليروا ما يأتون وما يذرون . وإسناد الإغارة التي هي متابعة العدو ، والنهب والقتل والأسر إلى الخيل ، وهي حال الراكب عليها ، إيذاناً بأنها العمدة في إغارتهم . وقوله تعالى : { فأثَرْنَ به نَقْعاً } أي : غباراً ، عطف على الفعل الذي دلّ عليه اسم الفاعل ، إذا المعنى : واللاتي عدون فأَوْرَين فأغرن فأثرن ، أي : هيّجن به غباراً ، وتخصيص إثارته بالصُبح لأنه لا تظهر إثارته بالليل ، كما أنَّ الإيراء الذي لا يظهر بالنهار واقع بالليل . والحاصل : أنّ العَدْو كان بالليل وبه يظهر أثر القدح من الحوافر ، ولا يظهر النقع إلاّ في الصبح . { فَوسَطْنَ به } أي : فوسطن بذلك الوقت { جَمْعاً } من جموع الأعداء والفاء لترتيب ما بعد كل على ما قبله ، فإنَّ توسط الجمع مترتب على الإثارة المترتب على الإغارة ، المترتبة على الإيراء ، والمترتب على العدْو . وجواب القسم : قوله تعالى : { إِنَّ الإِنسانَ لِربه لَكَنُود } أي : لَكفور ، من : كند النعمة : كَفَرها . وقيل : الكنود هو الذي يمنع رفده ، ويأكل وحده ، ويضرب عبده . وقيل : اللوّام لربه ، يَعْد المحنَ والمصائبَ ، وينسى النعم والراحات . وعلى كل حالٍ فلا يخرج عن أن يكون فسقاً أو كفراً أو تقصيراً في شكر الله على نعمه ، وتقصيراً وتفريطاً في الاستعداد للقائه ، وفي التعظيم لجنابه ، وبالجملة فهو القليل الخير ، ومنه : الأرض الكنود ، التي لا تُنبت شيئاً . قال : في الحاشية الفاسية : والظاهر من سياق السورة أنّ الكنود هو مَن اهتمامه بدنياه دون آخرته ، ولذلك كان حريصاً على المال ، ويرتكب المشاق في جمعه ، ولا يُبالي بآخرته ، ولا يستعد لمآله ولا لآخرته ، ولا يُقَدِّم لها ، وذلك لغفلته وجهله بربه وما أراده منه ، وطلبه من السعي للآخرة ، وقد ضَمِنَ له رزقه ، فلذلك بعد أن عدّد مذامّه هدّده ورهّبه بقوله : { أفلا يعلم … } الآية . هـ . والآية إمّا في جنس الإنسان إلاَّ مَن عصمه الله ، وهو الأظهر ، أو في مُعَيَّن ، كالوليد أو غيره . قيل : إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إلى أُناس من بني كنانة سرية ، واستعمل عليها المُنذر بن عمرو الأنْصاريّ ، وكان أحد النقباء ، فأبطأ خبره عنه صلى الله عليه وسلم شهراً ، فقال المنافقون : إنهم قُتلوا ، فنزلت السورة بسلامتها ، بشارةً له صلى الله عليه وسلم ونعياً على المرجفين وهذا يقتضي أن السورة مدنية ، وهو خلاف قول الجمهور ، كما تقدّم . { وإِنه } أي : الإنسان { على ذلك } أي : على كنوده { لَشَهِيدٌ } يشهد على نفسه بالكنود ، لظهور أثره عليه ، { وإِنه لِحُبّ الخير } أي : المال { لَشَدِيدٌ } أي : قويٌّ مُطيق مُجد في طلبه ، متهالك عليه ، وقيل : لشديد : لبخيل ، أي : وإنه لأجل حب المال وثقل إنفاقه عليه لبَخِيل مُمْسِك ، ولعل وصفه بهذا الوصف اللئيم بعد وصفه بالكنود للإيماء إلى أنَّ مِن جملة الأمور الداعية المنافقين إلى النفاق حب المال لأنهم بما يُظهرون من الإيمان يعصمون أموالهم ، ويحوزون من الغنائم نصيباً . ثم هدّد الكَنود ، فقال : { أفلا يعلمٌ إِذا بُعْثِر ما في القبور } أي : بُعث فيها ، و " ما " بمعنى " من " ، { وحُصِّلَ ما في الصدور } مُيِّز ما فيها من الخير والشر ، أي : أفلا يعلم مصيره ، وأنَّ الله مُطلع عليه ، في سيرته وسريرته ، فيُجازيه على تفريطه في جنبه وطاعته واتباع هواه وشهواته ، فآثر العاجلةَ على الآخرة ، وحظوظَه على حقوق ربه والقيام بعبوديته . { إِنَّ ربهم بهم يومئذٍ لَخبير } أي : عالم بظواهر ما عمِلوا وباطنه ، عِلماً موجباً للجزاء ، متصلاً به ، كما يُنبىء عنه تقييده بذلك اليوم ، إلاَّ فعلمه سبحانه مطلق محيط بما كان وما سيكون . وقوله : " بهم " و " يومئذ " يتعلقان بـ " بخبير " قُدما لرعاية الفواصل واللام غير قادحة ، وذلك لما يغتفر في المجرورات ، وقرأ ابن السمّاك : " أن ربهم بهم يومئذ خبير " . الإشارة : أقسم تعالى بأرواح المتوجهين ، التي تعدو على الخواطر الردية ، فتمحوها بقهرية المراقبة ، وتقدح من زند القلب نور الفكرة والنظرة ، وتُغِير على أعدائها من الدنيا والهوى والنفس والشيطان ، فتقهرهم بسيوف المخالفة عند سطوع المشاهدة ، وتُثير غبار المساوىء والذنوب بريح الهداية والتوبة ، فيذهب في الهواء ، وتوسط جمعاً من العلوم والأسرار ، فتحوزهم في خزانة قلبها وسِرها ، غنيمةً وذخيرةً ، وجوابه : إنّ الإنسان لربه لكنود ، مع أنه مغروق في النعم ، وهو لا يشعر ولا يشكر ، لغفلته وعدم تفكُّره ، وهذا الإنسان هو الغافل الجاهل . قال الورتجبي : الإنسانُ لا يعرف ما أعطاه الله من نعمه بالحقيقة ، وإنه لكفور إذ لا يعرف مُنعمه ، ثم قال عن الواسطي : الكنود يعدّ ما مِنه من الطاعات ، وينسى ما مّن الله به عليه من الكرامات . هـ . وإنه على ذلك لشهيد يشهد كفره وعصيانه وبُخله بحسب جبلته ، وإنه لِحُب الخير لشديد يأثره على معرفة مولاه ، فخسر خسراناً مبيناً ، أفلا يعلم ما يحلّ به إذا بُعثر ما في القبور ، فتظهر الأبطال من الأرذال ، وحُصِّل ما في الصدور من المعارف وأنواع الكمال ، إنّ ربهم بهم يومئذ لخبير ، فيُجازي أهلَ الإحسان وأهل الخذلان ، كُلاًّ بما يليق به . وبالله التوفيق وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .