Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 101, Ayat: 1-11)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { القارعةُ ما القارعةُ } القرع هو الضرب باعتماد ، بحيث يحصل منه صوت شديد وهي القيامة التي مبدؤها النفخة الأولى ، ومنتهاها فصل القضاء بين الخلائق ، سُميت بها لأنها تقرع القلوب والأسماع بفنون الأفزاع والأهوال . وهي مبتدأ ، خبرها : قوله : ما القارعةُ على أنَّ " ما " استفهامية خبر والقارعة مبتدأ ، لا بالعكس لما مرّ من أنَّ محط الإفادة هو الخبر لا المبتدأ . ولا ريب في أنَّ مدار إفادة الهول والفخامة هاهنا هو " ما القارعة " أيّ شيء عجيب هي في الفخامة والفظاعة ، وقد وقع الظاهر موضع الضمير تأكيداً للتهويل . { وما أدراك ما القارعةُ } هو تأكيد لهولها وفضاعتها ، ببيان خروجها عن دائرة علوم الخلق ، أي : أيُّ شيء أعلمك ما شأن القارعة ؟ ومن أين علمت ذلك ؟ و " أدري " يتعدى إلى مفعولين علقت عن الثاني بالاستفهام . ثم بيّن شأنها فقال : { يومَ يكونُ الناسُ كالفراش المبثوثِ } أي : هي يوم ، على أنَّ " يوم " مبني لإضافته إلى الفعل وإن كان مضارعاً على رأي الكوفيين ، والمختار أنه منصوب باذكر ، كأنه قيل بعد تفخيم أمر القارعة وتشويقه عليه الصلاة والسلام إلى معرفتها : اذكر يوم يكون الناس كالفراش المبثوث في الكثرة والانتشار والضعف والذلّة والاضطراب والتطاير إلى الداعي كتطاير الفراش إلى النار . والفراش : صِغار الجراد ، ويسمى : غوغاء الجراد ، وبهذا يوافق قوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] وقال أبو عبيدة : الفراش : طير لا بعوض ولا ذباب ، والمبثوث : المتفرق . وقال الزجاج : الفراش ما تراه كصغار البق يتهافت في النار . هـ . والمشهور أنه الطير الذ يتساقط في النار ، ولا يزال يقتحم على المصباح ، قال الكواشي : شبّه الناسَ عند البعث بالفراش لموج بعضهم في بعض ، وضعفهم وكثرتهم ، وركوب بعضهم بعضاً لشدة ذلك اليوم ، كقوله : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتِشِرٌ } [ القمر : 7 ] وسمي فراشاً لتفرُّشه وانتشاره وخفته . هـ . واختار بعضهم أن يكون هذا التشبيه للكفار لأنهم هم الذين يتهافتون في النار تهافت الفراش المنتشر . { وتكونُ الجبالُ كالعِهْنِ المنفوشِ } كالصوف الملون بالألوان المختلفة في تفرُّق أجزائها وتطايرها في الجو ، حسبما نطق به قوله تعالى : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً … } [ النمل : 88 ] الآية ، وكلا الأمرين من آثار القارعة بعد النفخة الثانية عند حشر الخلق ، يُبدِّل الله الأرضَ غير الأرض بتغيير هيئاتها وتسير الجبال سيراً عن مقارها على ما ذكر من الهيئة الهائلة ليشاهدها أهل المحشر ، وهي وإن اندكت وتصدّعت عند النفخة الأولى ، لكن تسيير وتسويتها يكونان بعد النفخة الثانية ، كما ينطق به قوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ ٱلْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] الآية ، ثم قال : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ ٱلدَّاعِيَ } [ طه : 108 ] وقوله تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [ إبراهيم : 48 ] ، الآية ، فإنَّ اتباع الداعي وهو إسرافيل ، وبروز الخلق لله تعالى لا يكون إلاَّ بعد النفخة الثانية . قاله أبو السعود . قلت : دكّ الأرض كلها مع بقاء جبالها غريبَ مع أنَّ قوله تعالى : { وَحُمِلَتِ ٱلأَرْضُ وَٱلْجِبَالُ … } [ الحاقة : 14 ] الخ صريح في دك الجبال وتسويتها مع دك الأرض قبل البعث ، ويمكن الجمع بأن بعضها تدك مع دك الأرض ، وهو ما كان في طريق ممر الناس للمحشر وبعضها تبقى ليشاهدها أهلُ المحشر ، وهو ما كان جانباً ، والله تعالى أعلم بما سيفعل وسَتَرِد وترى . ولمّا ذكر ما يَعُمّ الناس ذَكَر ما يخص كل واحد ، فقال : { فأمَّا مَن ثَقُلَتْ موازينه } باتباعه الحق ، وهو جمع " موزون " ، وهو العمل الذي له وزن وخطر عند الله أو جمع ميزان ، قال ابن عباس رضي الله عنه : هو ميزان له لسان وكفّتان ، تُوزن فيه الأعمال ، قالوا : تُوضع فيه صحائف الأعمال ، فينظر إليه الخلائق ، إظهاراً للمعدلة ، وقطعاً للمعذرة . قال أنس : " إنَّ ملكاً يوُكّل يوم القيامة بميزان ابن آدم ، يُجاء به حتى يوقف بين كفي الميزان ، فيُوزن عمله ، فإن ثقلت حسناته نادى بصوت يُسْمِع جميعَ الخلائق باسم الرجل : إلاَ سَعِدَ فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خفّت موازينه نادى : شَقِيَ فلان شقاوة لا يسعد بعدها أبداً " وقيل : الوزن عبارة عن القضاء السَّوي ، والحكم العَدْل ، وبه قال مجاهد والأعمش والضحاك ، واختاره كثير من المتأخرين ، قالوا : الميزان لا يتوصل به إلى معرفة مقادير الأجسام ، فكيف يُمكن أن يعرف مقادير الأعمال . هـ . والمشهور أنه محسوس . وقد رُوي عن ابن عباس أنه يُؤتى بالأعمال الصالحة على صورة حسنة ، وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتُوضع في الميزان فمَن ترجحت موازين حسناته { فهو في عيشةٍ راضيةٍ } أي : ذات رضاً ، أو مرضية ، { ومَن خَفَّتْ موازينُه } باتباعه الباطل ، فلم يكون له حسنات يُعتد بها ، أوترجحت سيئاته على حسناته ، { فأُمُّهُ هاويةٌ } ، هي من أسماء النار ، سُميت بها لغاية عمقها وبُعد مداها ، رُوي أنَّ أهل النار يهووا فيها سبعين خريفاً . وعبَّر عن المأوى بالأم لأنَّ أهلها يأوون إليها كما يأوي الولد إلى أمه ، وعن قتادة وغيره : فأم رأسه هاوية ، لأنه يُطرح فيها منكوساً . والأول هو الموافق لقوله : { وما أدراك مَا هِيَهْ } فإنه تقرير لها بعد إبهامها ، وللإشعار بخروجها عن الحدود المعهودة للتفخيم والتهويل ، وهي ضمير الهاوية ، والهاء للسكت ، ثبت وصلاً ووقفاً ، لثبوتها في المُصحف ، فينبغي الوقف ليوافق ثبوتها ، ثم فسَّرها فقال : { نارٌ حامية } بلغت النهاية في الحرارة ، قيل : وصفها بحامية تنبيهاً على أنَّ نار الدنيا بالنسبة إليها ليست بحامية فإنَّ نار الدنيا جزء من سبعين جزءاً منها ، كما في الحديث . الإشارة : القارعة هي سطوات تجلِّي الذات عند الاستشراف على مقام الفناء ، لأنها تقرع القلوب بالحيرة والدهش في نور الكبرياء ، ثم قال : { يوم يكون الناس كالفراش المبثوث } أو كالهباء في الهواء ، إن فتشته لم تجده شيئاً ووجد الله عنده ، يعني : إنَّ الخلق يصغر من جهة حسهم في نظر العارف ، فلم يبعد في قلبه منهم هيبة ولا خوف . وتكون الجبال ، جبال العقل ، كالعهن المنفوش ، أي : لا تثبت عند سطوع نور التجلِّي لأنّ نور العقل ضعيف كالقمر ، عند طلوع الشمس ، فأمّا مَن ثقُلت موازينه بأن كان حقاً محضاَ إذ لا يثقل في الميزان إلاَّ الحق ، والحق لا يُصادم باطلاً إلاَّ دمغه ، فهو في عيشة راضية ، لكونه دخل جنة المعارف ، وهي الحياة الطيبة ، وأمّا مَن خفّت موازينه باتباع الهوى فأُمُّه هاوية ، نار القطيعة ينكس فيها ويُضم إليها ، يحترق فيها بالشكوك والأوهام والخواطر ، وحر التدبير والاختيار . ورُوي في بعض الأثر : إنما ثقلت موازين مَن ثقلت موازينُهم يوم القيامة باتباعهم الحق وثقله في الدنيا وحُقَّ لميزان لا يوضع فيه إلاَّ الحق أن يَثقل ، وإنما خفَّتْ موازينُ مَن خفت موازينُهم باتباعهم الباطلِ وخفته في الدنيا ، وحُق لميزان لا يُوضع فيه إلاَّ الباطل أن يخف . هـ . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .