Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 104, Ayat: 1-9)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { ويلٌ لكل هُمَزَةٍ لُمزةٍ } ، " ويل " : مبتدأ ، و " لكل " : خبره ، والمُسوِّغ : الدعاء عليهم بالهلاك ، أو بشدة الشر ، والهَمْز : الكسر ، واللمز : الطعن ، أي : ويل للذي يحط الناس ويُصغِّرهم ، ويشتغل بالطعن فيهم . قال ابن جزي : هو على الجملة : الذي يعيب الناسَ ويأكل أعراضَهم ، واشتقاقه من الهمز واللمز ، وصيغة فعْلَة للمبالغة ، واختلف في الفرق بين الكلمتين ، فقيل : الهمز في الحضور ، واللمز في الغيبة ، وقيل العكس ، وقيل : الهمز باليد ، واللمز باللسان . وقيل : هما سواء . ونزلت السورة في الأخنس بن شريق ، لأنه كان كثير الوقيعة في الناس ، وقيل : في آميّة بن خلف ، وقيل : في الوليد بن المغيرة . ولفظها مع ذلك يعم كل مَن اتصف بهذه الصفة . هـ . وبناء " فُعَلة " يدل أن ذلك عادة منه مستمرة . وقوله : { الذي جَمَعَ مالاً } : بدل من " كل " ، أو : نصب على الذم ، وقرأ حمزة والشامي والكسائي " جَمَّعَ " بالتشديد للتكثير ، وهو الموافق لقوله : { عدَّده } أي : جعله عُدَّةً لحوادث الدهر ، { يَحْسَبُ أنَّ مالَه أخلده } أي : يتركه خالداً في الدنيا لا يموت ، وهو تعريض بالعمل الصالح فإنه أخلد صاحبه في النعيم المقيم ، فأمَّا المال فما أخلد أحداً ، إنما يخلد العلم والعمل ، ومنه قول علِيّ كرّم الله وجه : مات خُزّان المال وهم أحياء والعلماء باقون ما بقي الدهر فالحسبان إمّا حسبان الخلود في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال القائل : { وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَىٰ رَبِّي … } [ الكهف : 36 ] الآية . { كلاَّ } ردع له عن حسبانه . { لَيُنْبَذَنَّ } ليطرحن { في الحُطَمَة } في النار التي من شأنها أن تحطم كلَّ ما يُلقى فيها ، { وما أدراك ما الحُطَمَة } تهويل لشأنها ، { نارٌ الله الموقدة } أي : هي نار الله التي تتقد بأمر الله وسلطانه ، { التي تَطَّلِعُ على الأفئدة } يعني أنها تدخل في أجوافهم حتى تصل إلى صدورهم ، وتطلع على أفئدتهم ، وهي أوساط القلوب ، ولا شيء في بدن الإنسان ألطف من فؤاده ولا أشد تألُّماً منه بأدنى أذى يمسّه ، فكيف إذا طلعت عليه نار جهنم ، واستولت عليه ؟ وقيل : خصّ الأفئدة لأنها مواطن الكفر والعقائد الزائغة ، ومعنى اطلاع النار عليها : أنها تشتمل عليها وتعمها . { إِنها عليهم } أي : النار ، أو الحُطَمَة ، { مُّؤْصَدَةٌ } مُطبقة { في عَمَدٍ } جمع عماد . وفيه لغتان " عُمُد " بضمتين ، و " عَمَد " بفتحتين ، { مُمَدَّدة } أي : تؤصد عليهم الأبواب وتُمدّد على الأبواب العمد ، استيثاقاً في استيثاق ، والجار صفة لمؤصدة . وفي الحديث : " المؤمن كَيِّسٌ فَطنٌ ، وقّاف متثبّت ، لا يعجل ، عالم ، ورع ، والمنافق هُمزة ، لُمزة ، حُطَمَة كحاطب الليل ، لا يُبالي من أين اكتسب وفيم أنفق " . الإشارة : ويل لمَن اشتغل بعيب الناس عن عيوب نفسه ، قال الورتجبي : ويل الحجاب لمَن لا يرى الأشياء بعين المقادير السابقة ، حتى يشتغل بالوقيعة في الخلق بالحسد ، وهو مقبل على الدنيا بالجمع والمنع . هـ . وقوله تعالى : { الذي جَمَعَ مالاً وعدَّدَه } ذّمٌّ لمَن يجمع المال ويُعدده ، كائناً مَن كان ، والعجب من صُلحاء زماننا ، يجمعون القناطير المقنطرة ، ويترامون على المقام الكبير من الخصوصية ، وما هذا إلاَّ غلط فاحش فأين يوجد القلب مع نجاسة الدنيا ؟ ! وكيف يطهُر وتُشرق فيه الأنوار ، وصور الأكوان منطبعة في مرآته ؟ ! وقد قال بعض العارفين : عبادة الأغنياء كالصلاة على المزابل وعبادة الفقراء في مساجد الحضرة . هـ . { يحسب أنَّ ماله أخلدهُ } ، أي : يبقيه بالله ، كلا . قال الورتجبي : وَصَفَ الحقُّ تعالى الجاهلَ بالله بأنَّ ماله يُصله إلى الحق ، لا والله ، لا يصل إلى الحق إلاّ بالحق . وقال أبو بكر بن طاهر : يظن أنَّ مالَه يُوصله إلى مقام الخلد . هـ . كلاَّ ، ليُنبذن في الحُطمة التي تحطم كل ما تُصادمه ، وهي حب الدنيا ، تحطم كل ما يُلقى في القلب من حلاوة المعاملة أو المعرفة ، فلا يبقى معها نور قط ، وهي نار الله الموقدة ، التي تَطَّلع على الأفئدة ، فتُفسد ما فيها من الإيمان والعرفان ، إنها عليه مؤصدة ، يعني أنَّ الدنيا مُطْبقة عليهم ، حتى صارت أكبر همومهم ، ومبلغ علمهم . قال الورتجبي : لله نيران ، نار القهر ونار اللطف ، نار قهره : إبعاد قلوب المنكرين عن ساحة جلاله ، ونار لطفه نيران محبته في قلوب أوليائه من المحبين والعارفين . ثم قال : عن جعفر : ونيران المحبة إذا اتقدت في قلب المؤمن تحرق كل همّة غير الله ، وكل ذِكْرٍ سوى ذكره . هـ . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .