Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 108, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنَّا أعطيناك الكوثرَ } أي : الخير الكثير ، مَن شرف النبوة الجامعة لخير الدارين ، والرئاسة العامة ، وسعادة الدنيا والآخرة " فَوْعل " من الكثرة ، وقيل : هو نهر في الجنة ، أحلى من العسل ، وأشد بياضاً منَ اللبن ، وأبرد من الثلج ، وألين من الزبد ، حافتاه : اللؤلؤ والزبرجد ، وأوانيه من فضّةٍ عدد نجوم السماء ، لا يظمأ مَن شرب منه أبداً ، وأول وارديه : فقراء المهاجرين ، الدنسو الثياب ، الشعث الرؤوس ، الذي لا يتزوّجون المنعَّمات ، ولا يفتح لهم أبواب الشُدد أي : أبواب الملوك لخمولهم ، يموت أحدهم وحاجته تلجلج في صدره ، لو أقسم على الله لأبرَّه . هـ . وفسَّره ابن عباس بالخير الكثير ، فقيل له : إنَّ الناس يقولون : هو نهر في الجنة ، فقال : النهر من ذلك الخير ، وقيل : هو : كثرة أولاده وأتباعه ، أو علماء أمته ، أو : القرآن الحاوي لخيَري الدنيا والدين . رُوي : أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : " يا رب اتخذت إبراهيم خليلاً ، وموسى كليماً ، فبماذا خصصتني ؟ " فنزلت : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَىٰ } [ الضحى : 6 ] ، فلم يكتفِ بذلك ، فنزلت : { إِنَّا أعطيناك الكوثر } فلم يكتفِ بذلك ، وحُقَّ له ألاَّ يكتفي لأنَّ القناعة من الله حرمان ، والركون إلى الحال يقطع المزيد ، فنزل جبريلُ وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنَّ الله تبارك وتعالى يقرئك السلام ، ويقول لك : إن كنتُ اتخدتُ إبراهيم خليلاً ، وموسى كليماً ، فقد اتخذتك حبيباً ، فوعزتي وجلالي لأختارن حبيبي على خليلي وكليمي ، فسكن صلى الله عليه وسلم . والفاء في قوله : { فَصَلِّ لربك وانْحَرْ } لترتيب ما بعدها على ما قبلها ، فإنَّ إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يُعطها ولن يُعطها أحد من العالمين ، مستوجبة للمأمور به أيّ استيجاب أي : فدُم على الصلاة لربك ، الذي أفاض عليك هذه النِعم الجليلة ، التي لا تُضاهيها نعمة ، خالصاً لوجهه ، خلافاً للساهين المرائين فيها ، لتقوم بحقوق شكرها ، فإنَّ الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر . { وانْحَرْ } البُدن ، التي هي خيار أموال العرب ، وتصدَّق على المحاويج خلافاً لمَن يَدَعَهم ويمنعهم ويمنع عنهم الماعون ، وعن عطية : هي صلاة الفجر بجَمْعٍ ، والنحر بمِنى ، وقيل : صلاة العيد والضَحية ، وقيل : هي جنس الصلاة ، والنحر وضْعُ اليمين على الشمال تحت نحره . وقيل : هو أن يرفع يديه في التكبير إلى نحره . وعن ابن عباس : استقبل القبلة بنحرك ، أي : في الصلاة . وقاله الفراء والكلبي . { إِنَّ شَانِئَكَ } أي : مُبغضك كانئاً مَن كان { هو الأبْتَرُ } الذي لا عَقِب له ، حيث لم يبق له نسْل ، ولا حُسن ذكر ، وأمّا أنت فتبقى ذريتك ، وحُسن صيتك وآثار فضلك إلى يوم القيامة ، لأنَّ كل مَن يُولد مِن المؤمنين فهم أولادك وأعقابك ، وذِكْرك مرفوع على المنابر ، وعلى لسان كل عالم وذاكر ، إلى آخر الدهر ، يبدأ بذكر الله ويُثني بذكرك ، ولك في الآخرة ما لا يندرج تحت البيان ، فمثلك لا يقال فيه أبتر إنما الأبتر شانئك المَنْسي في الدنيا والآخرة . قيل : نزلت في العاص بن وائل ، كان يُسَمِّي النبيَّ صلى الله عليه وسلم حين مات ابنه " عبد الله " : أبتر ، ووقف مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل له : مع مَن كنت واقفاً ؟ فقال : مع ذلك الأبتر ، وكذلك سمّته قريش أبتر وصُنبوراً ، ولمّا قَدِمَ كعب بن الأشرف لعنه الله لمكة ، يُحرِّض قريشاً عليه صلى الله عليه وسلم قالوا له : نحن أهل السِّقايةِ والسِّدَانة ، وأنت سَيِّدُ أهل المدينة ، فنحن خير أمْ هذا الصنبور المُنْبَتِر من قومه ؟ فقال : أنتم خير ، فنزلت في كعب : { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ ٱلْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِٱلْجِبْتِ وَٱلطَّاغُوتِ … } [ النساء : 51 ] ، الآية ، ونزلت فيهم : { إن شانئك هو الأبتر } . الإشارة : يُقال لخليفة الرسول ، الذي تَخلَّق بخُلقه ، وكان على قدمه : إنَّا أعطيناك الكوثر : الخير الكثير ، لأنَّ مَن ظفر بمعرفة الله فقد حاز الخير كله " ماذا فقد مَن وجدك " فَصَلّ لربك صلاة القلوب ، وانحر نفسك وهواك ، إنَّ شانئك ومُبغضك هو الأبتر وأمَّا أنت فذكرك دائم وحياتك لا تنقطع لإنَّ موت أهل التُقى حياة لا فناء بعدها . وقال الجنيد : إن شانئك هو الأبتر ، إي : المنقطع عن بلوغ أمله فيك . هـ . وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله .