Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 11, Ayat: 112-115)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : ومن تاب : عطف على فاعل استقم للفصل ، فَتَمَسَّكُمُ : جواب النهي . ويقال : ركن يركن : كعَلِم يعلم ، وركن يركن : كدخل يدخل ، وثم لا تنصرون : مستأنف لا معطوف ، وطرفي : منصوب على الظرفية . وزلفاً ، كقربة ، أزلفه : قربة . يقول الحق جل جلاله : { فاستقمْ } يا محمد { كما أُمرت } ، { و } ليستقم { من تابَ معك } من الكفر وآمن بك . وهي شاملة للاستقامة في العقائد ، كالتوسط بين التشبيه والتعطيل ، بحيث يبقى العقل مصوناً من الطرفين ، وفي الأعمال من تبليغ الوحي ، وبيان الشرائع كما أنزل ، والقيام بوظائف العبادات من غير تفريط ولا إفراط . وهي في غاية العسر . ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " شَيَّبَتنِي هُود " قاله البيضاوي . قال المحشي الفاسي : واللائق أن إشفاقه عليه الصلاة والسلام من أجل أمته لا من أجل نفسه لأجل نفسه لأجل عصمته ، وإنما أشفق عليهم لتوعد اللعن لهم بقوله : { لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } [ الأعراف : 16 ] . هـ . قلت : ولا يبعد أن يكون أشفق عليه الصلاة والسلام من صعوبة استقامته التي تليق به ، فبقدر ما يعلو المقام يطلب بزيادة الأدب ، وبقدر ما يشتد القرب يتوجه العتاب . ولذلك كان الحق تعالى يعاتبه على ما لا يعاتب عليه غيره . وقد قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين . وقد تقدم كلام الإحياء في قوله : { أَلا بُعداً لِعَادٍ } [ هود : 60 ] . ثم قال تعالى : { ولا تَطْغَوا } ولا تخرجوا عما حد لكم ، { إنه بما تعملون بصير } ، فيجازيكم على النقير والقطمير ، وهو تهديد لمن لم يستقم ، وتعليل للأمر والنهي . { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } : لا تميلوا إليهم أدنى ميل فإن الركون : هو الميل اليسير ، كالتزيي بزيهم ، وتعظيم ذكرهم ، وصحبتهم من غير تذكيرهم ووعظهم . { فتمسَّكم النارُ } لركونهم إليهم . قال الأوزاعي : ما من شيء أبغض إلى الله تعالى من عَالِم يَزورُ عَاملاً . هـ . وقال سفيان : في جهنم وادٍ لا يسكنه إلا القراء الزائرون للملوك . هـ . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من دَعَا لِظَالٍمٍ بالبَقَاءِ أي بأن قال : بارك الله في عمرك فَقَدْ أَحَبَّ أَنْ يُعْصَى الله في أرضهِ " وسئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برية ، هل يسقى شربة ماء ؟ فقال : لا . فقيل له : يموت ؟ ! فقال : دعه يموت . هـ . وهذا إغراق ولعله في الكافر المحارب ، والله أعلم . قال البيضاوي : وإذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمى ظلماً موجباً للنار ، فما ظنك بالركون إلى الظالمين الموسومين بالظلم ، ثم الميل إليهم ، ثم بالظلم نفسه ، والانهماك فيه . ولعل الآية أبلغ ما يتصور في النهي عن الظلم والتهديد عليه . وخطاب الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه من المؤمنين بها للتثبيت على الاستقامة التي هي العدل فإن الزوال عنها بالميل إلى أحد طرفي إفراط أو تفريط ، ظلم على نفسه أو غيره ، بل ظلم في نفسه . هـ . { وما لكم من دون الله من أولياء } من أنصار يمنعون العذاب عنكم ، { ثم لا تُنصرون } : ثم لا ينصركم الله إن سبق في حكمه أنه يعذبكم . ولمَّا كان الركون إلى الظلم ، أو إلى من تلبس به فتنة ، وهي تكفرها الصلاة ، كما في الحديث ، أمر بها أثره ، فقال : { وأقم الصَّلاةَ طرفي النهار } غدوة وعشية ، { وزلُفاً من الليل } ساعات منه قريبة من النهار . والمراد بالصلاة المأمور بها : الصلوات الخمس . فالطرف الأول : الصبح ، والطرف الثاني : الظهر والعصر ، والزلف من الليل : المغرب والعشاء ، { إن الحسنات يُذهبن السيئات } يكفر بها قال ابن عطية : لفظ الآية عام في الحسنات خاص في السيئات لقوله صلى الله عليه وسلم : " ما اجتنَبت الكَبَائِرُ " ثم قال : وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " الجُمُعَةُ إلى الجُمعَةِ كفَّارَة ، والصَّلوَاتُ الخَمسُ ، وَرَمَضانُ إِلى رَمَضانَ كفاره لِمَا بينَهُما ما اجتُنِبت الكبائر " انظر تمامه في الحاشية . قال ابن جزي : " رُوي أن رجلاً قََبّل امراة ، قلتُ : هو نبهان التمار ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وصلَّى معه الصلاة ، فنزلت الآية ، فقال صلى الله عليه وسلم : " أين السائل ؟ " فقال : ها أنا ذا ، فقال : " قدغَفَرَ اللَّهُ لَكَ بِصَلاتِكَ مَعَنا " . فقال الرجل : أَلِيَ خاصَّةً ، أو للمسلمين عامة ؟ فقال : " للمسلمين عَامَّةً " والآية على هذا مدنية . وقيل : إن الآية كانت قبل ذلك ، وذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للرجل مستدلاً بها . والآية على هذا مكية كسائر السورة ، وإنما تُذهب الحسناتُ عند الجمهورـ الصغائر إذا اجتنبت الكبائر . هـ . قلت : وقيل : تكفر مطلقاً اجتُنِبَت الكبائر أم لا ، وهو الظاهر ، لأنه إذا حصل اجتناب الكبائر كفرت بلا سبب لقوله تعالى { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ … } [ النساء : 31 ] الآية . وقوله عليه الصلاة والسلام : " ما اجتنبت الكبائر " معناه : أن الصلوات والجمعة مكفرة لما عدا الكبائر . والحاصل : أن من اجتنب الكبائر كفرت عنه الصغائر بلا سبب لنص الآية . ومن ارتكب الكبائر والصغائر وصلى ، كفرت الصغائر دون الكبائر ، وبهذا تتفق الآية مع الحديث . والله تعالى أعلم . قال ابن عطية في قوله تعالى : { إِنَّ ٱللَّهَ ٱشْتَرَىٰ … } [ التوبة : 111 ] الآية : الشهادة ماحية لكل ذنب إلا لمظالم العباد . وقد روي : " أن الله يتحمل عن الشهيد مظالم العباد ، ويجازيهم عنه " . ختم الله لنا بالحسنى . انتهى . { ذلك } أي : ما تقدم من وعظ ووعد ووعيد ، وأمر الاستقامة ، أو القرآن كله ، { ذكرى للذاكرين } : عظة للمتقين . وخص الذاكرين ، لمزيد انتفاعهم بالوعظ ، لصقالة قلوبهم . وفي الخبر : " لكل شيء مصقلة ، ومصقلة القلوب ذكر الله " . { واصبرْ } على مشاق الاستقامة ، ودوامها { فإن الله لا يُضيع أجرَ المحسنين } وهم : أهل الاستقامة ظاهراً وباطناً . الإشارة : الاستقامة على ثلاثة أقسام : استقامة الجوارح ، واستقامة القلوب ، واستقامة الأرواح والأسرار . أما استقامة الجوارح فتحصل بكمال التقوى ، وتحقيق المتابعة للسنة المحمدية . وأما استقامة القلوب فتحصل بتطهيرها من سائر العيوب ، كالكبر والعجب ، والرياء ، والسمعة ، والحقد والحسد ، وحب الجاه والمال ، وما يتفرع عن ذلك من العداوة والبغضاء ، وترك الثقة بمجيء الرزق ، وخوف سقوط المنزلة ، من قلوب الخلق ، والشح والبخل ، وطول الأمل ، والأشر والبطر ، والغل والمباهاة ، والتصنع والمداهنة ، والقسوة والفظاظة والغلظة ، والغفلة ، والجفاء ، والطيش ، والعجلة ، والحمية ، وضيق الصدر ، وقلة الرحمة . إلى غير ذلك من أنواع الرذائل . فإذا تطهر القلب من هذه العيوب اتصف بأضدادها من الكمالات : كالتواضع لله ، والخشوع بين يديه ، والتعظيم لأمره ، والحفظ لحدوده ، والتذلل لربوبيته ، والإخلاص في عبوديته ، والرضى بقضائه ، ورؤية المنة له في منعه وعطائه . ويتصف فيما بين خلقه بالرأفة والرحمة ، واللين والرفق ، وسعة الصدر والحِلم ، والاحتمال والصيانة ، والنزاهة والأمانة ، والثقة والتأني ، والوقار ، والسخاء والجود ، والحياء ، والبشاشة والنصيحة . إلى غير ذلك من الكمالات . وأما استقامة الأرواح والأسرار ، فتحصل بعدم الوقوف مع شيء سوى الله تعالى ، وعدم الالتفات إلى غيره حالاً كان أو مقاماً أو كرامة ، أو غير ذلك : كما قال الششتري رضي الله عنه : @ فلا تلْتَفِت في السَّير غيراً ، وكلُّ ما سوى الله غيرٌ ، فاتخذ ذِكرَه حِصنا وكلُّ مقامٍ لا تُقمْ فيهِ إنّه حجابٌ ، فجد السَّير واستَنجد العونا ومهما ترى كلًّ المراتِبِ تجْتَلِي عليكَ فحلْ عنها ، فعَن مثلها حُلنا وقُلْ : ليس لي في غَير ذاتِكَ مَطلبٌ فلا صورةُ تُجلى ولا طُرفة تُجنا @@ وقوله تعالى : { ولا تركنوا إلى الذين ظلموا } : هو نهي عن صحبة الغافلين والميل إليهم . قال بعض الصوفية : قلب لبعض الأبدال : كيف الطريق إلى التحقيق ، والوصول إلى الحق ؟ قال : لا تنظر إلى الخلق فإن النظر إليهم ظلمة ، قلت : لا بد لي ، قال : لا تسمع كلامهم فإن كلامهم قسوة : قلت : لا بد لي ، قال : لا تعاملهم لأن معاملتهم خسران وحسرة ووحشة ، قلت : أنا بين أظهرهم لا بد لي من معاملتهم ؟ قال : لا تسكن إليهم فإن السكون إليهم هلكة . قلت : هذا لعله يكون ؟ قال : يا هذا ، أتنظر إلى اللاعبين ، وتسمع كلام الجاهلين ، وتعامل البطالين ، وتسكن إلى الهلكى ، وتريد أن تجد حلاوة الطاعة ، وقلبك مع غير الله عز وجل ! ! هيهات ! هذا ما لا يكون أبداً . هـ . ونقل الورتجبي عن جعفر الصادق : ولا تركنوا إلى نفوسكم فإنها ظلمَة . هـ . ثم ذكمر سبب هلاك الأمم الماضية ، وهو فشو الظلم ، وعدم تغيير المنكر ، فقال : { فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ ٱلْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ } .