Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 110, Ayat: 1-3)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِذا جاء نَصْرُ اللهِ } " إذا " ظروف لِما يُستقبل والعامل فيه : { فسبِّح } ، والنصر : الإعانة والإظهار على العدوّ ، والفتح : فتح مكة ، أو فتح البلاد والإعلام بذلك قبل الوقوع من أعلام النبوة ، إذا قلنا نزلت قبل الفتح ، وعليه الأكثر ، والمعنى : إذا جاءك نصر الله ، وظَهَرْتَ على العرب ، وفتح عليك مكة أو سائر بلاد العرب ، فَأَكْثِر من التسبيح والاستغفار ، تأهُّباً للقاء أو شكراً على النِعم ، والتعبير عن حصول الفتح بالمجيء للإيذان بأنّ حصوله على جناح الوصول عن قريب . وقيل : نزلت أيام التشريق بمِنىً في حجة الوداع ، وعاش بعدها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ثمانين يوماً ، فكلمة إذا حينئذ باعتبار أنَّ بعض ما في حيزها أعني : رؤية دخول الناس أفواجاً غير منقض بعدُ . وكان فتح مكة لعَشْرٍ من شهر رمضان ، سنة ثمان ، ومع النبي صلى الله عليه وسلم عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وطوائف العرب ، وأقام بها خمس عشرة ليلة . وحين دخلها وقف على باب الكعبة ، ثم قال : " لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهَزَم الأحزابَ وحده " ، ثم قال : " يا أهل مكة ما ترون إني فاعل بكم ؟ " قالوا : خيراً ، أخ كريم ، وابن أخ كريم ، قال : " اذهبوا فأنتم الطُلقاء " فأعتقهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان الله تعالى أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا لهم فيئاً ، ولذلك سُمي أهل مكة الطُلقاء ، ثم بايعوه على الإسلام ، ثم خرج إلى هوازن . ثم قال تعالى : { ورأيتَ الناسَ } أي : أبصرتهم ، أو علمتهم { يدخلون في دينِ الله } أي : ملة الإسلام ، التي لا دين يُضاف إليه تعالى غيرها . والجملة على الأول : حال من " الناس " ، وعلى الثاني : مفعول ثان لرأيت ، و { أفواجاً } حال من فاعل " يدخلون " أي : يدخلون جماعة بعد جماعة ، تدخل القبيلة بأسرها ، والقوم بأسرهم ، بعدما كانوا يدخلون واحداً واحداً ، وذلك أنَّ العرب كانت تقول : إذا ظفر محمدٌ بالحرم وقد كان آجرهم الله من أصحاب الفيل فليس لكم به يدان ، فلما فُتحت مكة جاؤوا للإسلام أفواجاً بلا قتال ، فقد أسلم بعد فتح مكة بَشَرٌ كثير ، فكان معه في غزوة تبوك سبعون ألفاً . وقال أبو محمد بن عبد البر : لم يمت رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وفي العرب كافر ، وقد قيل : إنَّ عدد المسلمين عند موته : مائة ألف وأربعة عشر ألفاً . هـ . فإذا رأيتَ ما ذكر من النصر والفتح { فَسَبِّح بحمد ربك } أي : قل سبحان الله ، حامداً له ، أو : فصلّ له { واستغفره } تواضعاً وهضماً للنفس ، أو : دُمْ على الاستغفار ، { إِنه كان } ولم يزل { تواباً } كثير القبول للتوبة . روت عائشةُ رضي الله عنها أنَّ النبيّ صلى الله عليه وسلم : لَمّا فتح مكة ، وأسلمت العرب ، جعل يُكثر أن يقول : " سبحانك اللهم وبحمدك ، وأستغفرك وأتوب إليك ، يتأوّل القرآن " يعني في هذه السورة . وقال لها مرة : " ما أراه إلاَّ حضور أجلي " ، وتأوَّله العباس وعمر رضي الله عنهما بذلك بمحضره صلى الله عليه وسلم فصدّقهما ، ونزع هذا المنزع ابن عباس وغيره . الإشارة : إذا جاءتك أيها المريد نصر الله لك ، بأن قوّاك على خرق عوائد نفسك ، وأظفرك بها والفتح وهو دخول مقام الفناء ، وإظهار أسرار الحقائق ورأيت الناسَ يدخلون في طريق الله أفواجاً ، فسبّح بحمد ربك ، أي : نزّه ربك عن رؤية الغيرية والأثنينية في ملكه ، واستغفره من رؤية وجود نفسك . قال القشيري : ويقال النصر من الله بأن أفناه عن نفسه ، وأبعد عنه أحكام البشرية ، وصفّاه من الكدورات النفسانية ، وأمّا الفتح فهو : أن رقَّاه إلى محل الدنو ، واستخلصه بخصائص الزلفة ، وألبسه لباس الجمع ، وعرّفه من كمال المعرفة ما كان جميع الخلق متعطشاً إليه . هـ . وقال الورتجبي فَسَبِّح بحمد ربك أي : سبِّحه بحمده لا بك ، أي : فسبِّحه بالحمد الذي حمد به نفسه ، واستغفِره من حمدك وثنائك وجميع أعمالك وعرفانك ، فإنّ الكل معلول إذ وصف الحدثان لا يليق بجمال الرحمن ، إنه كان قابل التوب من العجز عن إدراك كنه قدسه ، والاعتراف بالجهل عن معرفة حقيقة وجوده . هـ . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .