Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 112, Ayat: 1-4)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { هو } ضمير الشأن مبتدأ ، والجملة بعده خبر ، ولا تحتاج إلى رابط لأنها نفس المبتدأ ، فإنها عين الشأن الذي عبّر عنه بالضمير ، ورفعه من غير عائد يعود عليه للإيذان بأنه الشُهرة والنباهة بحيث يستحضرة كلُّ أحد ، وإليه يُشير كل مُشير وعليه يعود كل ضمير ، كما يُنبىء عنه اسم الشأن الذي هو القصد . والسر في تصدير الجملة به للتنبيه من أول الأمر على فخامة مضمونها وجلالة حيزها ، مع ما فيه من زيادة تحقيقٍ وتقرير ، فإنَّ الضمير لا يُفهم منه من أول الأمر إلاّ شأن مبهم ، له خطر جليلٍ ، فيبقى الذهن مترقباً لِما أمامه مما يفسره ويزيل إبهامه ، فيتمكن عند وروده له فضل تمكُّن . وكل جملة بعد خبره مقرِّره لِما قبلها على ما يأتي . يقول الحق جلّ جلاله مجيباً للمشركين لَمّا قالوا : صِفْ لنا ربك الذي تدعونا إليه ، وانسبه ؟ فسكت عنهم صلى الله عليه وسلم فنزلت ، أو اليهود ، لَمّا قالوا : صِفْ لنا ربك وانسبه ، فإنه وَصَفَ نفسه في التوراة ونَسَبَها ، فارتعد رسولُ الله صلى الله عليه وسلم حتى خَرّ مغشيًّا عليه ، فنزل جبريلُ عليه السلام بالسورة . ويمكن أن تنزل مرتين كما تقدّم . فقال جلّ جلاله : { قل هو اللهُ } المعبود بالحق ، الواجب الوجود ، المستحق للكمالات { أحَدٌ } لا شريك له في ذاته ، ولا في صفاته ، ولا في أفعاله ، لا يتبعّض ولا يتجزّأ ولا يُحد ، ولا يُحصَى ، أول بلا بداية ، وآخر بلا نهاية ، ظاهر بالتعريف لكل أحد ، باطن في ظهوره عن كل أحد . وأصل { أحد } هنا " وَحَد " فأبدلت الواو همزة ، وليست كأحد الملازم للنفي ، فإنَّ همزة أصلية . ووصفه تعالى بالوحدانية له ثلاث معان ، الأول : أنه لا ثاني له ، فهو نفي للعدد ، والآخر : أنه واحد لا نظير له ولا شريك له ، كما تقول : فلان واحد عصره ، أي : لا نظير له ، الثالث : أنه واحد لا ينقسم ولا يتبعّض . والأظهر أن المراد هنا : نفي الشريك ، لقصد الرد على المشركين . انظر ابن جزي . { اللهُ الصمدُ } وهو فَعَلٌ بمعنى مفعول ، من : صمد إليه : إذا قصده ، أي : هو السيّد المصمود إليه في الحوائج ، المستغني بذاته عن كل ما سواه ، المفتقِر إليه كلُّ ما عداه ، افتقاراً ضرورياً في كل لحظة ، إذ لا قيام للأشياء إلاّ به . أو الصمد : الدائم الباقي الذي لم يزل ولا يزال ، أو : الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، والذي يُطْعِم ولا يُطْعَم ولا يأكل ولا يشرب ، أو : الذي لا جوف له ، وتعريفه لعلمهم بصمديته ، بخلاف أحديته . وتكرير الاسم الجليل ، للإشعار بأنَّ مَن لم يتصف بذلك فهو بمعزلٍ عن استحقاق الألوهية ، والتلذُّذ بذكره . وتعرية الجملة عن العاطف ، لأنها كالنتيجة عن الأولى ، بيَّن أولاً ألوهيته عزّ وجل ، المستوجبة لجميع نعوت الكمال ، ثم أحديته الموجبة لتنزّهه عن شائبة التعدد والتركيب بوجهٍ من الوجوه ، وتوهم المشاركة في الحقيقة وخواصها ثم صمديته المقتضية لاستغنائه الذاتي عما سواه ، وافتقار المخلوقات إليه في وجودها وبقائها وسائر أحوالها ، تحقيقاً للحق وإرشاداً إلى التعلُّق بصمديته تعالى . ثم صرّح ببعض أحكام مندرجة تحت الأحكام السابقة ، فقال : { لم يلدْ } أي : لم يتولد عن شيء ، ردًّا على المشركين ، وإبطالاً لاعتقادهم في الملائكة والمسيح ، ولذلك ورد النفي على صيغة الماضي ، أي : لم يصدر عنه ولد لأنه لا يُجانسه شيء يمكن أن يكون له من جنسه صاحبة ليتوالدا ، كما ينطق به قوله تعالى : { أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } [ الأنعام : 101 ] ، ولا يفتقر إلى ما يُعينه أو يخلفه لاستحالة الحاجة عليه ، لصمدانيته وغناه المطلق . { ولم يُولدْ } أي : لم يتولد عن شيءٍ ، لا ستحالة نسبة العدم إليه سابقاً ولاحقاً . والتصريح به مع كونهم معترفين بمضمونه لتقرير ما قبله وتحقيقه وللإشارة إلى أنهما متلازمان ، إذ المعهود أنَّ ما يلد يولد ، وما لا فلا ، ومِن قضية الاعتراف بأنه لم يلد : الاعتراف بأنه لم يُولد ، { ولم يكن له كُفُواً أحَدٌ } أي : ولم يكن أحد مماثلاً له ولا مشاكلاً ، مِن صاحبة أو غيرها . وله : متعلق بـ " كُفُواً " ، قدمت عليه للاهتمام بها لأنَّ المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى ، وأمّا تأخير اسم كان فلمراعاة الفواصل . ووجه الوصل في هذه الجُمل غَنِي عن البيان . هذا ولانطواء السورة الكريمة ، مع تقارب قطريها ، على أنواع المعارف الإلهية والأوصاف القدسية ، والرد على مَن ألحد فيها ، ورد في الحديث النبوي : أنها تعدل ثلث القرآن ، فإنّ مقاصده منحصرة في بيان العقائد والأحكام والقصص ، وقد استوفت العقائد لمَن أمعن النظر فيها . عن النبي صلى الله عليه وسلم : " أُسست السموات السبع والأرضون السبع على { قل هو الله أحد } " أي : ما خلقت إلاَّ لتكون دلائل توحيده ، ومعرفة ذاته ، التي نطقت بها هذه السورة الكريمة . وعنه صلى الله عليه وسلم أنه سمع رجلاً يقرؤها ، فقال : " " وجبت " فقيل : وما وجبت ؟ فقال : " الجنة " ، وشكى إليه رَجُلٌ الفقرَ وضيق المعاش ، فقال له صلى الله عليه وسلم : " إذا دخلت بيتك فسَلِّم إن كان فيه أحد ، وإلا فسَلِّم عليّ واقرأ : { قل هو الله أحد } " ففعل الرجل ، فأدرّ اللهُ عليه الرزق ، حتى أفاض على جيرانه " ، وخرّج الترمذي : أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال : " من قرأ { قل هو الله أحد } مائتي مرة في يوم غُفرت له ذنوب خمسين سنة ، إلاّ أن يكون عليه دَيْن " ، وفي الجامع الصغير أحاديث في فضل السورة تركناه خوف الإطناب . الإشارة : قد اشتملت السورةُ على التوحيد الخاص ، أعني : توحيد أهل العيان ، وعلى التوحيد العام ، أعني : توحيد أهل البرهان ، فالتوحيد الخاص له مقامان : مقام الأسرار الجبروتية ، ومقام الأنوار الملكوتية ، فكلمة هو تُشير إلى مقام الأسرار اللطيفة الأصلية الجبروتية . والله يشير إلى مقام الأنوار الكثيفة المتدفقة من بحر الجبروت لأنّ حقيقة المشاهدة : تكثيف اللطيف ، وحقيقة المعاينة : تلطيف الكثيف ، فالمعاينة أرقّ ، فشهود الكون أنواراً كثيفة فاضت من بحر الجبروت مشاهدة ، فإذا لَطَّفها حتى اتصلت بالبحر اللطيف المحيط ، وانطبق بحر الأحدية على الكل سُميت معاينةً ، ووصفه تعالى بالأحدية والصمدية والتنزيه عن الولد والوالد يحتاج إلى استدلال وبرهان ، وهو مقام الإيمان ، والأول مقام الإحسان فالآية من باب التدلي . قال القشيري : يقال كاشَفَ تعالى الأسرارَ بقوله هو والأرواحَ بقوله : الله وكاشف القلوبَ بقوله : أحد وكاشف نفوسَ المؤمنين بباقي السورة . ويُقال : كاشف الوالهين بقوله : هو والموحِّدين بقوله : الله والعارفين بقوله : أحد والعلماء بالباقي ، ثم قال : ويُقال : خاطب خاصة الخاص بقوله : هو فاستقلوا ، ثم خاطب الخواص بقوله الله فاشتغلوا ، ثم زاد في البيان لمَن نزل عنهم ، فقال : أحد ، ثم نزل عنهم بالصمد ، وكذلك لمَن دونهم . هـ . وقال في نوادر الأصول : هو اسم لا ضمير ، من الهوية ، أي : الحقيقة . انظر بقية كلامه . قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن العارف : والحاصل : أنَّ الإشارة بـ " هو " مختصة بأهل الاستغراق والتحقُّق في الهوية الحقيقة ، فلانطباق بحر الأحدية عليهم ، وانكشاف الوجود الحقيقي لديهم ، فقدوا مَن يشار إليه إلاّ هو ، لأنّ المُشار إليه لمّا كان واحداً كانت الإشارة مطلقة لا تكون إلاّ إليه ، لفقد ما سواه في شعورهم ، لفنائهم عن الرسوم البشرية بالكلية ، وغيبتهم عن وجودهم ، وعن إحساسهم وأوصافهم الكونية ، وذلك غاية في التوحيد والإعظام . منحنا اللهُ ذلك على الدوام ، وجعلنا من أهله ، ببركة نبيه عليه الصلاة والسلام . وبالله التوفيق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .