Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 114, Ayat: 1-6)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { قل أعوذُ بربِّ الناس } مربّيهم ومُصلحهم ، { مَلِكِ الناس } مالكهم ومدبر أمورهم . وهو عطف بيان جيء به لبيان أنَّ تربيته تعالى ليست بطريق تربية سائر المُلاك لِما تحت أيديهم من ممالكهم ، بل بطريق المُلك الكامل ، والتصرُّف التام ، والسلطان القاهر . وكذا قوله تعالى : { إِلهِ الناس } فإنه لبيان أنَّ مُلكه تعالى ليس بمجرد الاستيلاء عليهم ، والقيام بتدبير أمور سياستهم ، والمتولِّي لترتيب مبادىء حِفظهم وحمايتهم ، كما هو قصارى أمر الملوك ، بل هو بطريق العبودية ، المؤسَّسة على الألوهية ، المقتضية للقدرة التامة على التصرُّف الكلي فيهم ، إحياءً وإماتةً ، وإيجاداً وإعداماً . وتخصيص الإضافة إلى الناس مع انتظام جميع العالَمين في سلك ربوبيته تعالى وملكوته وألوهيته للإرشاد إلى مناهج الاستعاذة المرضية عنده تعالى ، الحقيقة بالإعاذة ، فإنَّ توسل العبد بربه ، وانتسابه إليه تعالى بالمربوبية والملكية والمعبودية ، في ضمن جنس هو فرد من أفراده ، من دواعي الرحمة والرأفة . أمره تعالى بذلك من دلائل الوعد الكريم بالإعاذة لا محالة ، ولأنَّ المستعاذ منه شر الشيطان ، المعروف بعداوتهم ، مع التنصيص على انتظامه في سلك عبوديته تعالى وملكوته ، رمز إلى إنجائهم من ملكة الشيطان وتسلُّطه عليهم ، حسبما ينطق به قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } [ الإسراء : 65 ] فمَن جعل مدارَ تخصيص الإضافة مجرد كون الاستعاذة من المضار المختصة بالنفوس البشرية فقد قصر في توفية المقام حقه . وتكرير المضاف إليه لمزيد الكشف والتقرير والتشريف . قاله أبو السعود . والآية من باب الترقِّي ، وذلك أنَّ الرب قد يُطلق على كثير من الناس ، فتقول : فلان رب الدار ، وشبه ذلك ، فبدأ به لاشتراك معناه وأمَّا المَلك فلا يُوصف به إلاَّ آحاد من الناس ، وهم الملوك ، ولا شك أنهم أعلى من سائر الناس ، فلذلك جيء به بعد الرب ، وأمَّا الإله فهوأعلى من المَلك ، ولذلك لا يَدَّعي الملوكُ أنهم آلهة ، وإنما الإله واحد لا شريك له ولا نظير قاله ابن جزي . { من شَرَّ الوسواس } أي : الموسوس ، فالوسواس مصدر ، كالزلزال ، بمعنى اسم الفاعل ، أو سمي به الشيطان مبالغةً ، كأنه نفس الوسوسة ، و { الخناس } الذي عادته أن يخنس ، أي : يتأخر عند ذكر الإنسان ربَّه ، { الذي يُوَسْوِسُ في صدور الناس } إذا غفلوا عن ذكر الله ، ولم يقل : في قلوب الناس لأنَّ الشيطان محله الصدور ، ويمدّ منقاره إلى القلب ، وأمّا القلب فهو بيت الرب ، وهو محل الإيمان ، فلا يتمكن منه كل التمكُّن ، وإنما يحوم في الصدر حول القلب ، فلو تمكّن منه لأفسد على الناس كلهم إيمانهم . قال ابن جزي : وسوسة الشيطان بأنواع كثيرة ، منها : فساد الإيمان والتشكيك في العقائد ، فإن لم يقدر على ذلك ثبّطه عن الطاعات ، فإن لم يقدر على ذلك أدخل الرياء في الطاعات ليُحبطها ، فإن سَلِمَ من ذلك أدخل عليه العجب بنفسه ، واستكثار عمله ، ومن ذلك : أنه يُوقد في القلب نار الحسد والحقد والغضب ، حتى يقود الإنسان إلى سوء الأعمال وأقبح الأحوال . وعلاج وسوسته بثلاثة أشياء ، وهي : الإكثار من ذكر الله والإكثار من الاستعاذة منه ، ومن أنفع شيءٍ في ذلك : قراءة سورة الناس . هـ . قلت : لا يقلع الوسوسة من القلب بالكلية إلاّ صُحبة العارفين ، أهل التربية ، حتى يُدخلوه مقامَ الفناء ، وإلاَّ فالخواطر لا تنقطع عن العبد . ثم بَيّن الموسوِس بقوله : { مِن الجِنة } أي : الجن { والناس } ووسواس النار أعظم لأنَّ وسواس الجن يذهب بالتعوُّذ ، بخلاف وسوسة الناس ، والمراد بوسوسة الناس : ما يُدخلون عليك من الشُبه في الدين وخوض في الباطن ، أو سوء اعتقاد في الناس ، أو غير ذلك . قال ابن جزي : فإن قلت : لِمَ ختم القرآن بالمعوذتين ، وما الحكمة في ذلك ؟ فالجواب من ثلاثة أوجه ، الأول : قال شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير : لمَّا كان القرأنُ من أعظم نِعم الله على عباده ، والنعمة مظنة الحسد ، ختم بما يُطفىء الحسد ، من الاستعاذة بالله . الثاني : يَظهر لي أنَّ المعوذتين ختم بهما لأنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيهما : " أنزلت علي آيات لم يُر مثلهن قط " كما قال في فاتحة الكتاب : " لم ينزل في التوراة ولا في الإنجيل ولا في الفرقان مثلها " فافتتح القرآن بسورة لم ينزل مثلها ، واختتم بسورتين لم يرَ مثلهما للجمع بين حسن الافتتاح والاختتام . ألا ترى أن الخُطب والرسائل والقصائد ، وغير ذلك من أنواع الكلام ، يُنظر فيها إلى حسن افتتاحها واختتامها . والوجه الثالث : أنه لمّا أمر القارىء أن يفتح قراءته بالتعوُّذ من الشيطان الرجيم ، ختم القرآن بالمعوذتين ليحصل الاستعاذة بالله عند أول القراءة وعند آخر ما يقرأ من القرآن ، فتكون الاستعاذة قد اشتملت على طرفي الابتداء والانتهاء ، فيكون القارىء محفوظاً بحفظ الله ، الذي استعاذ به مِن أول أمره إلى آخره . هـ . الإشارة : لا يُنجي من الوسوسة بالكلية إلاّ التحقُّق بمقام الفناء الكلي ، وتعمير القلب بأنوار التجليات الملكوتية والأسرار الجبروتيه ، حتى يمتلىء القلب بالله فحينئذ تنقلب وسوسته في أسرار التوحيد فكرةً ونظرةً وشهوداً للذات الأقدس ، كما قال الشاعر : @ إن كان للناس وسواس يوسوسهم فأنت والله وسواسي وخناسي @@ وبالله التوفيق . وهو الهادي إلى سواء الطريق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على سيدنا محمد ، وآله وصحبه وسلّم تسليماً . كَمِل " البحر المديد في تفسير القرآن المجيد " بحول الله وقوته . نسأل الله سبحانه أن يكسوه جلباب القبول ويُبلغ به كل مَن طالعه أو حصّله القصدَ والمأمول ، بجاه سيد الأولين والآخرين ، سيدنا ومولانا محمد ، خاتم النبيين وإمام المرسلين . وعُمْدَتنا فيه : تفسير البيضاوي وأبي السعود ، وحاشية شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي ، وشيء من تفسير ابن جزي والثعلبي والقشيري . وكان الفراغ من تبييضه زوال يوم الأحد ، سادس ربيع النبوي ، عام واحد وعشرين ومائتين وألف ، على يد جامعه العبد الضعيف ، الفقير إلى مولاه أحمد بن محمد بن عجيبة الحَسَنِي ، لطف الله به في الدارين . آمين وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .