Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 13, Ayat: 38-39)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { ولقد ارسلنا رُسُلاً من قَبلكَ } يا محمد ، { وجعلنا لهم أزواجاً } كثيرة : كداود عليه السلام كان له مائة امرأة ، وابنه كان له ألف ، على ما قيل ، وغيرهما من الأنبياء والرسل . { و } جعلنا لهم منهن { ذُريةً } ، وأنت يا محمد منهم فليس ببدع أن يكون الرسول بشراً ، يتزوج النساء ، ويحتاج إلى ما يحتاج إليه البشر ، إلا أنه لا يشغله ذلك عن أداء الرسالة ، ونصيحة الأمة ، وإظهار شريعة الدين ، والقيام بحقوق رب العالمين . ولما أجابهم بشبهتهم قالوا : أظهر لنا معجزة كما كانت لهم ، كالعصا وفلق البحر ، وإحياء الموتى ؟ فإنزل الله { وما كان لرسول } ما صح له ولم يكن في وسعه { أن يأتي بآيةٍ } تُقترح عليه ، ويظهرها { إلا بإذن الله } وإرادته فإنه القادر على ذلك . { لكل أجلٍ } من آجال بني آدم وغيرهم ، { كتابٌ } يُكتب فيه وقت موته ، وانتقاله من الدنيا . { يمحو الله ما يشاء } من ديوان الأحياء ، فيكتب في الأموات ، { ويُثبتُ } من لا يموت . قيل : إن هذا الكتاب يُكتب ليلة القدر ، أو ليلة النصف من شعبان ، ويجمع بينهما بأن الكتابة تقع ليلة النصف ، وإبرازه للملائكة ليلة القدر ، { وعنده أُمُّ الكتاب } أي : الأصل المنسوخ منه كتب الآجال ، وهو اللوح المحفوظ ، أو العلم القديم . وهذا التفسير يناسب اقتراح الآيات لأنهم إذا أجيبوا بظهور الآية ولم يؤمنوا ، عوجلوا بالهلاك ، وذلك له كتاب محدود . قال الورتجبي : بيَّن الحق سبحانه أن أوان إتيان الآية بأجل معلوم في وقت معروف ، بقوله : { لكل أجل كتاب } أي : لكل مقدور في الأزل في قضية مرادة وقت معلوم في علم الله ، لا يأتي إلا في وقته . هـ . أو : { لكل أجل } أي : عصر وزمان ، { كتاب } فيه شريعة مخصوصة على ما يقتضيه استصلاحهم . { يمحو الله ما يشاء } : ينسخ ما يستصوب نسخه من الشرائع ، { ويُثبتُ } ما تقتضي الحكمة عدم نسخه . { وعنده أم الكتاب } وهو : اللوح المحفوظ فإنه جامع للكائنات . وهذا يترتب على قوله : { ومن الأحزاب من ينكر بعضه } ، وهو ما لا يوافق شريعتهم . قال سيدي عبد الرحمن الفاسي : { يمحو الله ما يشاء } ما يستصوب نسخه ، { ويُثبت } ما تقتضيه حكمته ، فلا ينكر مخالفته للشرائع في بعض الأحكام مع موافقته للحكم ، وهو الأصول الثابتة في أصول الشرائع ، ولذا قال : { وعنده أمُّ الكتاب } أي : لا يبدل . هـ . وقريب منه للبيضاوي . وقيل : إن المحو والإثبات عام في جميع الأشياء . قال ابن جزي : وهذا ترده القاعدة المتقررة بأن القضاء والقدرلا يتبدل ، وعلم الله لا يتغير . هـ . قلت : أما القضاء المبرم ، وهو : علم الله القديم الذي استأثر الله به ، فلا شك أنه لا يتبدل ولا يغير ، وأما القضاء الذي يبرز إلى علم الخلائق من الملائكة وغيرهم ، فيقع فيه المحو والإثبات ، وذلك أن الحق تعالى قد يُطلعهم على بعض الأقضية ، وهي عنده متوقفة على أسباب وشروط يخفيها عنهم بقهريته ، ليظهر اختصاصه بالعلم الحقيقي ، فإذا أراد الملائكة أن ينفذوا ذلك الأمر محاه الله تعالى ، وأثبت ما عنده في علم غيبه ، وهو أُمُّ الكتاب ، حتى قال بعضهم : إن اللوح الحفوظ له جهتان : جهة تلي عالَم الغيب ، وفيه القضاء المبرم ، وجهة تلي عالَم الشهادة ، وفيه القضاء الذي يُرد ويُمْحى لأنه قد تكتب فيه أمور ، وهي متوقفة على شروط وأسباب في علم الغيب ، لم تظهر في هذه الجهة التي تلي عَالَم الشهادة ، فيقع فيها المحو والإثبات ، وبهذا يندفع إشكالات كقوله في الحديث : " لا يَرُدُ القَضَاءَ إلا الدُّعَاءُ ، وصلة الرحم تزيد في العُمُر " . وقول ابن مسعود ، وعمر رضي الله عنهما ـ : اللهم إن كنت كتبتنا في ديوان الشقاء فامحنا ، واكتبنا في ديوان السعادة ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت . هـ . أي : إن كنت أظهرت شقاوتنا فامحها ، وأظهر سعادتنا فإنك تمحو ما تشاء … إلخ . وفي ابن عطية ما يشير إلى هذا ، قال : وأصوب ما يفسر به أم الكتاب ، أنه كتاب الأمور المجزومة التي سبق القضاء فيها بما هو كائن ، وسبق ألا تبدل ، ويبقى المحو والتثبيت في الأمور التي سبق في القضاء أن تبدل وتُمحى وتثبت . قال نحوه قتادة . هـ . الإشارة : قوله تعالى : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك … } الآية ، قد أثبت تعالى لأهل خصوصية النبوة والرسالة الأزواج والذرية ، وكان ذلك كمالاً في حقهم . وكذلك أهل خصوصية الولاية ، تكون لهم أزواج وذرية ، ولا يقدح في مرتبتهم ، بل يزيد فيها ، وذلك بشرط أن يقع ذلك بعد التمكين ، أو يكون في صحبة شيخ عارف كامل عند أمره ونهيه ، يكون فعل ذلك بإذنه ، فإذا كان هذا الشرط فإن التزوج يزيد صاحبه تمكيناً من اليقين . قال الورتجبي في هذه الآية : أعْلَمَ تَعالى ، بهذه الآية ، الجُهَّال أنه إذا شَرَّف وليّاً أو صدِّيقاً بولايته ومعرفته لم يَضُرّ بِه مباشرة أحكام البشرية من الأهل والولد ، ولم يكن بسْط الدنيا له قدحاً في ولايته . هـ . وقال الغزالي في الإحياء ، في الترغيب في النكاح : قال تعالى في وصف الرسل ومَدْحِهِم : { ولقد أرسلنا رسلاً من قبلك وجعلنا لهم أزواجاً وذُرية } ، فذكر ذلك في معرض الامتنان وإظهار الفضل ، ومَدَح أولياءه بسؤال ذلك في الدعاء ، فقال تعالى : { وَٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } [ الفرقان : 74 ] الآية ، ويقال : إن الله تعالى لم يذكر في كتابه من الأنبياء إلا المتأهلين . وقالوا : إن يحيىعليه السلام قد تزوج فلم يجامع . قيل : إنما فعل ذلك لنيل الفضل وإقامة السُّنة ، وقيل : لغض البصر . وأما عيسى عليه السلام فإنه سينكح إذا نزل الأرض ، ويولدُ له . وأما الأخبار فقوله صلى الله عليه وسلم : " النَّكَاحُ سُنَّتي ، فَمَنْ أَحَبَّ فِطْرَتي فَليسْتَنَّ بِسُنَّتِي " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " تَنَاكَحُوا تَكَاثَروا فإنِّي أُبَاهِي بِكُم الأُممَ يَوْمَ القِيَامة ، حَتَّى السَّقْط " وقال أيضاً : " مَنْ رَغِبَ عَن سُنَّتي فَلَيْسَ مِنِّي ، وإِنَّ مِنْ سُنَّتي النِّكاحَ ، فَمَنْ أحَبَّنِي فَليَسْتَنَّ بِسُنَّتِي " وقال صلى الله عليه وسلم : " مَنْ تَرَكَ التَّزَوُّج مَخَافَةَ العَيْلة فَلَيس مِنَّا " وقال صلى الله عليه وسل : م " مَنْ نَكَحَ لله وأَنكَحَ لله استَحَقَّ ولايَة الله " . ثم قال : وقال ابن عباس لابنه : لا يتم نسك الناسك حتى يتزوج . وكان ابن مسعود يقول : لو لم يبق من عمري إلا عشرة أيام لأحببت أن أتزوج ، لا ألقى الله عَزَبَاً . وكان معاذ رضي الله عنه مطعوناً وهو يقول : زوجوني ، لا ألقي الله عزباً . وكان ماتت له زوجتان بالطاعون . وكان عُمَرُ يكثر النكاح ، ويقول : لا أتزوج إلا للولد ، وكان لعليّ رضي الله عنه أربع نسوة ، وسبع عشرة سرية ، وهو أزهد الصحابة . فدل أن تزوج النساء لا يدل على الرغبة في الدنيا . قال سفيان : كثرة النساء ليس من الدنيا . واستدل بقضية عليّ رضي الله عنه قال : وكان أزهد الصحابة . ورُوي أن بشر الحافي رُئيَ في المنام ، فقيل له : ما فعل الله بك ؟ فقال : رفعت إلى منازلي في الجنة فأشرفت على مقامات الأنبياء ، ولم أبلغ منازل المتأهلين . وفي رواية : قال لي : ما كنت أحب أن تَلقاني عَزَباً ، قال الرائي : فقلت له : ما فعل أبو نصر التمار ؟ قال : رُفع فوقي بسبعين درجة بصبره على بُنياته وعياله . وقد قيل : فضل المتأهل على العزب كفضل المجاهد على القاعد ، وركعةٌ مِنْ متأهل أفضل من سبعين ركعة من عزب . هـ . كلام الغزالي باختصار . وقوله تعالى : { يمحو الله ما يشاء ويُثبت } ، من جملة ما يقع فيه المحو والإثبات الواردات الإلهية التي ترد على القلوب من تجليات الغيوب فإن القلب إذا تطهر من الأكدار ، وصفا من الأغيار ، كان كل ما يتجلى فيه من الغيوب فهو حق ، إلا أنه ينسخ بعضها بعضاً فقد يخبر الولي بأمر ، يكون أوْ لا يكون على حساب ما تجلى في قلبه ، ثم يمحو الله ذلك ، ويثبت في قلبه خلافه . أو يظهر في الوجود خلاف ما أخبر ، وليس بكذب في حقه ، ولكن الحق تعالى يُظهر لخلقه أموراً من مقدوراته ، متوقفاً وجودُها على أسبابٍ وشروطٍ أخفاها الحق تعالى عن خلقه ، ليظهر عجزهم عن إحاطة علمه ، فالنسخ إنما يقع في فعله لا في أصل علمه . قال الأستاذ القشيري : المشيئة لا تتعلق إلا بالحدوث ، والمحو والإثبات لا يكون إلا من أوصاف الحدوث ، فصفات ذات الحق سبحانه من كلامه وعلمه ، لا يدخل تحت المحو والإثبات ، إنما يكون المحو والإثبات من صفات فعله . هـ . وقال سهل رضي الله عنه : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } الأسباب ، { وعنده أمُّ الكتاب } القضاء المبرم . هـ . وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي : { وعنده أم الكتاب } : العلم الأول الثابت الذي لا يطرأ عليه تغيير ولا تبديل ، ولا يقبل النسخ والتحريف . ومطالعته : بالفناء عن الحقيقة الخَلْقِية ، والبقاء بالأنوار الصمدانية ، والأنفاس الرحمانية . قال في القوت : والمحبة من أشرف المقامات ، ليس فوقها إلا مقام الخُلَّة ، وهو مقام في المعرفة الخاصة ، وهي : تخلّل أسرار الغيب ، فيطلع على مشاهدة المحبوب ، بان يعطى إحاطة بشيء من علمه بمشيئته ، على مشيئته التي لا تتقلب ، وعلمه القديم الذي لا يتغير . وفي هذا المقام : الإشراف على بحار الغيوب ، وسرائر ما كان في القديم وعواقب ما يدب . ومنه : مكاشفة العبد بحاله ، وإشهاده من المحبة مقامه ، والإشراف على مقامات العباد في المآل ، والاطلاع عليهم في تقلبهم في الأبد حالاً ومآلاً . هـ . قلت : هذا الاطلاع إنما هو إجمالي لا تفصيلي ، وقد يقع فيه المحو والإثبات لأنه من جملة المعلومات التي دخلت عالم التكوين ، التي يقع فيها التبديل والتغيير . ثم قال صاحب القوت : وقد قال أحسن القائلين : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] ، والاستثناء واقع على إعطاء الإحاطة بشيء من شهادة علمه ، بنورٍ ثاقبٍ من وصفه ، وشعاع لائحٍ من سبحاته ، إذا شاء ، وذلك إذا أخرجت النفس من الروح ، فكان روحانياً ، خُروجَ الليلِ من النهار . هـ . ثمَّ تمَّم الجواب عن اقتراحهم الآيات