Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 16, Ayat: 24-29)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ماذا } ، يجوز أن يكون اسمًا واحدًا مركبًا منصوبًا بـ { أَنزل } ، وأن تكون ما : استفهامية في موضع رفع بالابتداء ، و ذا : بمعنى " الذي " : خبر ، وفي أنزل ضميرٌ محذوف ، أي : ما الذي أنزله ربكم ؟ واللام في { ليحملوا } : لام العاقبة والصيرورة ، أي : قالوا : هو أساطير الأولين فأوجب ذلك أن يحملوا أوزارهم وأوزار غيرهم ، وقيل : لام الأمر ، و { بغير علم } : حال من المفعول في { يُضلونهم } ، أو من الفاعل ، و { تُشاقُّون } : من قرأه بالكسر فالمفعول : ضمير المتكلم ، وهو الله تعالى ، ومن قرأه بالفتح فالمفعول محذوف ، أي : تشاقون المؤمنين من أجلهم . و { ظالمي أنفسهم } : حال من ضمير المفعول في : " تتوفاهم " . يقول الحقّ جلّ جلاله : { وإذا قيل لهم } أي : كفار قريش : { ماذا أنزل ربكم } على رسوله محمد - عليه الصلاة والسلام - ؟ { قالوا } : هو { أساطير الأولين } أي : ما سطره الأولون وكتبوه من الخرافات . وكان النضر بن الحارث قد اتخذ كتب التواريخ ، ويقول : إنما يُحدِّث مُحمدٌ بأساطير الأولين ، وحديثي أجمل من حديثه . والقائل لهم هم المقتسِمُون ، وتسميته ، حينئذ ، مُنزلاً إما على وجه التهكم ، أو على الفَرض والتقدير ، أي : على تقدير أنه منزل ، فهو أساطير لا تحقيق فيه . ويحتمل أن يكون القائل لهم المؤمنين ، فلا يحتاج إلى تأويل . { ليحملوا أوزارهَم كاملةً يوم القيامة } أي : قالوا ذلك ليُضلوا الناس ، فكان عاقبتهم أن حملوا أوزار ضلالهم كاملة ، { ومن أوزارِ الذين يُضلونهم } : وبعض أوزار ضلال من كانوا يضلونهم - وهو حصة التسبب في الوقوع في الضلال - حال كونهم { بغير علم } أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل . وفيه دليل على أن الجاهل في العقائد غير معذور إذ كان يجب عليه أن يبحث عن الحق وأهله ، وينظر في دلائله وحُججه . قال البيضاوي : { بغير علم } : حال من المفعول أي : يضلون من لا يعلم أنهم ضُلاّل ، وفائدتها : الدلالة على أن جهلهم لا يعذرهم إذ كان عليهم أن يبحثوا ، ويميزوا بين المحق والمبطل . هـ . وقال المحشي : ففيه ذم تقليد المبطل ، وأن مقلده غير معذور ، بخلاف تقليد المحق الذي قام بشاهد صدقه المعجزة ، أو غير ذلك ، كدليل العقل والنقل فيما تعتبر دلالته . هـ . قلت : ويجوز أن يكون حالاً من الفاعل ، أي : يُضِلُّونَ في حال خلوهم من العلم ، فقد جمعوا بين الضلال والإضلال . قال تعالى في شأن أهل الإضلال : { ألا سَاءَ ما يَزِرُون } ، أي : بئس شيئًا يزرونه فعلهم هذا . { قد مكر الذين من قَبلِهم } أي : دبروا أمورًا ليمكروا بها الرسل ، { فأتى اللهُ بُنيانهم من القواعد } أي : قصد ما دبروه من أصله ، فهدمه ، { فخرَّ عليهم السَّقْفُ من فوقهم } ، وصار ما دبروه ، وبنوه من المكر ، سبب هلاكهم ، { وأتاهم العذابُ من حيث لا يشعرون } لا يحتسبون ولا يتوقعون ، وهو على سبيل التمثيل . وقال ابن عباس وغيره : المراد به نمرود بن كنعان ، بنى الصرح ببابل ، سُمْكُهُ خمسة آلاف ذراع ليترصّد أمر السماء ، فبعث الله ريحًا فهدمته ، فخرَّ عليه وعلى قومه ، فهلكوا ، وقيل : إن جبريل عليه السلام هدمه ، فألقى أعلاه في البحر ، وانجعف من أسفله . { ثم يَوْمَ القيامة يُخزيهم } : يذلهم ويعذبهم بالنار ، { ويقول أين شركائِيَ } ، أضافها إلى نفسه استهزاء ، أو حكاية لإضافتهم إياها إليه في الدنيا زيادةً في توبيخهم ، أي : أين الشركاء { الذين كنتم تُشاقون فيهم } : تعادون المؤمنين في شأنهم ، أو تشاقونني في شأنهم فإن مُشاقة المؤمنين كمشاقته ، أو تحاربون وتخارجون ، فتكونون في شق والحق في شق ، { قال الذين أُوتوا العلم } وهم الأنبياء والعلماء الذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد ، فيشاققونهم ويتكبرون عليهم ، أو الملائكة : { إنّ الخزي اليوم والسُّوءَ } : الذلة والعذاب { على الكافرين } . وفائدة قولهم ذلك لهم : إظهارُ الشماتة وزيادة الإهانة ، وحكايته ، ليكون لطفاً لمن سمعه من المؤمنين ، فيزيد حذرًا وحزمًا في الطاعة ، وقال الواحدي : إن الخزي اليوم والسوء عليهم لا علينا . هـ . أي : فيقولونه اعترافًا واستبشارًا بإنجاز ما وعدهم الله ، كما قالوا : الحمد لله الذي هدانا لهذه الهداية . ثم وصفهم بقوله : { الذين تتوفاهم الملائكةُ } تقبض أرواحهم { ظالمي أنفسِهِم } بأن عرضوها للعذاب المخلد ، { فألقَوُا السَّلَمَ } أي : استسلموا ، وألقوا القياد من أنفسهم ، حين عاينوا الموت ، قائلين : { ما كنا نعملُ من سُوء } : من كفر وعدوان ، يحتمل أن يكون قولهم ذلك قصدوا به الكذب اعتصامًا به ، كقولهم : { وَٱللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعَام : 23 ] ، أو يكونوا أخبروا على حساب اعتقادهم في أنفسهم ، فلم يقصدوا الكذب ، ولكنه كذب في نفس الأمر . قال الحسن : هي مواطن ، فمرة يُقرون على أنفسهم ، كما قال تعالى : { وَشَهِدُواْ عَلَىٰ أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } [ الأنعَام : 130 ] ، ومرة يجحدون كهذه الآية ، فتجيبهم الملائكة بقولهم : { بلى } قد كنتم تعملون السوء والعدوان ، { إن الله عليم بما كنتم تعملون } فهو يجازيكم عليه . وقيل : إن قوله : { فألقَوُا السَّلَمَ } إلى آخر الآية ، راجع إلى شرح حالهم يوم القيامة ، فيتصل في المعنى بقوله عزّ وجلّ : { أين شركائي الذين كنتم تُشاقون فيهم } إلخ ، فيكون الرَّادُ عليهم بقوله : بلى ، هو الله تعالى ، أو : أولو العلم ، ويُقوي هذا قوله بعده { فادخلوا أبواب جهنم } لأن دخولها لا يكون إلا بعد البعث والحساب ، لا بعد الموت إذ لا يكون بعد الموت إلا العرض عليها غُدوًا وعشيًا ، والمراد بدخول أبوابها ، أي : التي تفضي إلى طبقاتها ، التي هي بعضها على بعض ، وأبوابها كذلك ، كل صنف يدخل من بابه المُعَدِّ له ، { خالدين فيها فلبئس مثوى } أي : مقام { المتكبرين } جهنم . الإشارة : وإذا قيل لأهل الغفلة والإنكار : ماذا أنزل ربكم ، على قلوب أولياء زمانكم من المواهب وأسرار الخصوصية ؟ قالوا : أساطير الأولين ، ثم عَوَّقُوا الناس عن الدخول في طريقهم لتطهير قلوبهم ، فيحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة حيث ماتوا مصرين على الكبائر وهم لا يشعرون . ويحملون من أوزار الذين يضلونهم عن طريق الخصوص بغير علم ، بل جهلاً وعنادًا وحسدًا ، ألا ساء ما يزرون . قلت : الذي أتلف العوام عن الدين ثلاثة أصناف : علماء السوء ، وفقراء السوء - وهم أهل الزوايا والنسبة - ، وقراء السوء لأن هؤلاء هم المقتدى بهم ، والمنظور إليهم ، فإذا رأوهم أقبلوا على الدنيا ، وقصروا في الدين ، تبعوهم على ذلك فضلوا معهم ، فقد ضلوا وأضلوا ، وإذا أنكروا على أولياء الله ، ومكروا بهم ، اقتدوا بهم في ذلك فيتولى الله حفظ أوليائه ، ويهدم مكرهم قال تعالى : { فأتى الله بنيانهم من القواعد } … الآية ، فإذا كان يوم القيامة أبعدهم عن حضرته ، وأسكنهم مع عوام خلقه . فإذا أنكروا ما فعلوا في الدنيا ، يقال لهم : { بلى إن الله عليم بما كنتم تعملون } ، فيخلدون في عذاب القطيعة والحجاب ، فبئس مثوى المتكبرين . والله تعالى أعلم . ثمَّ ذكر اضدادهم فقال : { وَقِيلَ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْاْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ }