Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 16, Ayat: 43-44)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { بالبينات } : يتعلق بأرسلنا الذي في أول الآية ، على التقديم والتأخير ، أي : وما أرسلنا إلا رجالاً بالبينات ، فاسألوا أهل الذكر ، أو بأرسلنا مضمرًا ، وكأنه جواب سائل قال : بم أُرسلوا به ؟ فقال : بالبينات ، أو : صفة لرجال ، أي : رجالاً ملتبسين بالبينات ، أو : بيوحى . انظر البيضاوي . يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على قريش ، حيث قالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا : وما أرسلنا من قَبْلِكَ يا محمد { إلا رجالاً } بشرًا ، { يوحى إليهم } كما يُوحى إليك . فليس ببدع أن يكون الرسول بشرًا ، بل جرت السنة الإلهية بأن لا يبعث للدعوة العامة إلا بشرًا يوحى إليه على ألسنة الملائكة إذ لا يطيق كل البشر رؤية الملائكة ولا التلقي منهم . فإن شككتم { فاسألوا أهل الذكر } : أهل الكتاب ، أو علماءهم الأحبار ، أي : الذين لم يسلموا ، لأنهم لا يتهمون في شهادتهم ، من حيث إنهم مدافعون في صدر ملة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنتم إلى تصديق من لم يؤمن من أهل الكتاب أقرب من تصديقكم المؤمنين منهم ، فاسألوهم ليخبروكم : هل كانت الرسل ملائكة أو بشرًا ، { إن كنتم لا تعلمون } ذلك . قال البيضاوي : وفي الآية دليل على أنه تعالى لم يرسل امرأة ولا ملكًا للدعوة العامة . وأما قوله : { جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً } [ فَاطِر : 1 ] فمعناه : رسلاً إلى الأنبياء . وقيل : لم يُبعثوا إلى الأنبياء إلا متمثلين بصورة الرجال . ورُدَّ بما رُوي أنه عليه صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام على صورته التي هو عليها مرتين . وعلى وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم . هـ . ومفهوم قوله : " الدعوة العامة " أن الدعوة الخاصة كالأنبياء - عليهم السلام - ، فإن الله يبعث إليهم الملك ليعلمهم أمر دينهم . ثم قال تعالى : { بالبينات والزُّبر } أي : أرسلناهم بالمعجزات والكتب . { وأنزلنا إليك الذكر } أي : القرآن لأنه تذكير ووعظ ، { لتُبيِّن للناس ما نُزِّل إليهم } من الأحكام ، مما أمروا به ونهوا عنه ، ومما تشابه عليهم منه . والتبيين أعم من أن ينص على المقصود ، أو يرشد إلى ما يدل عليه ، كالقياس ودليل العقل . قاله البيضاوي . قال ابن جزي : يحتمل أن يريد : لتبين القرآن بسردك نَصَّهُ وتعليمِهِ ، أو لتُبين معانيه بتفسير مُشكله ، فيدخل في هذا ما سنته السنة من الشريعة . هـ . { ولعلهم يتفكرون } في عجائبه وأسراره ، فيخوضون بسفن أفكارهم في تيار بحر معانيه وأنواره ، فينتبهون للحقائق والشرائع . الإشارة : كما لم يبعث الله في الدعوة العامة - وهي دعوة الرسالة - إلا رجالاً من البشر ، كذلك لم يبعث الله في الدعوة الخاصة - وهي دعوة الولاية إلى سر الخصوصية - إلا رجالاً من البشر أحياء ، يُربون التربية النبوية العرفية ، فلا يصلح للتربية النساء لقلة عقلهن ، ولا الجن لانحرافه عن الاعتدال الذي في البشر ، ولا الميت لعدم وجود بشريته فإنَّ بشرية الحي تمد البشرية ، والروحانية تمد الروحانية . فلا تتهذب البشرية إلا بشهود بشرية الشيخ ، ولا تصفى الروحانية إلا بالقرب من روحانية الشيخ . ولذلك قالوا : الثدي الميتة لا تُرضع . وقولنا : " التربية العرفية " أعني : بالصحبة العرفية ، وأما التربية الغيبية ، على وجه خرق العادة ، كطيران الشيخ إلى المريد ، أو المريد إلى الشيخ ، فلا تجد صاحب هذه التربية إلا منحرفًا لإحدى الجهتين ، إما إلى الحقيقة أو إلى الشريعة ، بخلاف التربية العرفية ، فلا يكون صاحبها ، في الغالب ، إلا معتدلاً كاملاً . وقوله تعالى : { فاسألوا أهل الذكر } هم العارفون بالله ، فإذا أشكل علينا أمر من أمر القلوب كأسرار التوحيد ، وأمر الخواطر ، رجعنا إليهم لأنهم أهل الذوق والكشف ، يُجيبون سائلهم بالهمة والحال ، حتى يقلعوا عروق ما أشكل على السائل ، إن أتاهم متعطشًا لهفانًا ، وكذا ما أشكل في أمر الدنيا ، من فعل تريد أن تفعله أو تتركه ، فينبغي الرجوع إليهم لأنهم ينظرون بنور الله ، فلا ينطقهم الله إلا بما هو حق سبق به القدر . وأما أمور الدين ، فإن كان له علم بالشريعة الظاهرة فالرجوع إليه ، وإن لم يكن له علم بالظاهر ، فالعلماء قائمون بهذا الأمر . وقوله تعالى : { إن كنتم لا تعلمون } يُفهم منه أن من كان من أهل الفهم عن الله ، يأخذ العلم عن الله بإلهام أو تجل حقيقي ، فلا يحتاج إلى سؤالهم ، حيث صفت مرآة قلبه ، وقد يكون الولي ذاكرًا ، باعتبار قوم ، وغير ذاكر ، باعتبار آخرين ، الذين هم أنهض منه حالاً ، وأصوب مقالاً . والله تعالى أعلم .