Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 18, Ayat: 47-49)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ويوم } : معمول لمحذوف ، أي : واذكر ، أو عطف على قوله : " عند ربك " ، أي : والباقيات الصالحات خير عند ربك ويوم القيامة ، و { حشرناهم } : عطف على { نُسيّر } للدلالة على تحقق الحشر المتفرع على البعث الذي ينكره المشركون ، وعليه يدور أمر الجزاء ، وكذا الكلام فيما عطف عليه ، منفيًا وموجبًا ، وقيل : هو للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليعاينوا تلك الأهوال ، كأنه قيل : وحشرناهم قبل ذلك . و { نغادر } : نترك ، يقال : غادره وأغدره : إذا تركه ، ومنه : الغدير لما يتركه السيل في الأرض من الماء ، و { صفًّا } : حال ، أي : مصْطفين . يقول الحقّ جلّ جلاله : { و } اذكر { يوم نُسيِّرُ الجبالَ } أي : حين نقلعها من أماكنها ونسيرها في الجو ، على هيئتها ، كما ينبئ عنه قوله تعالى : { وَتَرَى ٱلْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ ٱلسَّحَابِ } [ النمل : 88 ] أو : نسير أجزاءها بعد أن نجعلها هباء منثورًا ، والمراد من ذكره : تحذير الغافلين مما فيه من الأهوال ، وقرئ : " تُسَيَّر " بالبناء للمفعول جريًا على سَنَن الكبرياء ، وإيذانًا بالاستغناء عن الإسناد إلى الفاعل لظهور تعينه ، ثم قال : { وترى الأرضَ } أي : جميع جوانبها ، والخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم ، أو لكل من يسمع ، { بارزةً } : ظاهرة ، ليس عليها جبل ولا غيره . بل تكون { فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً لاَّ تَرَىٰ فِيهَا عِوَجاً وَلاۤ أَمْتاً } [ طه : 106 ، 107 ] . { وحشرناهم } : جمعناهم إلى الموقف من كل حدب ، مؤمنين وكافرين ، { فلم نُغادرْ } أي : لم نترك { منهم أحدًا } . { وعُرِضُوا على ربك } ، شبهت حالتهم بحال جُنْدٍ عُرِضَ على السلطان ، ليأمر فيهم بما يأمر . وفي الالتفات إلى الغيبة ، وبناء الفعل للمفعول ، مع التعرض لعنوان الربوبية ، والإضافة إلى ضميره - عليه الصلاة والسلام - من تربية المهابة ، والجري على سَنَن الكبراء ، وإظهار اللطف به صلى الله عليه وسلم - ما لا يخفى . قاله أبو السعود . { صَفًّا } أي : مصْطَفِّينَ غير متفرقين ولا مختلطين ، كل أمة صَفٌّ ، وفي الحديث الصحيح : " يَجْمَعُ اللهُ الأولين والآخرين في صَعِيدٍ واحِد ، صفوفًا ، يُسْمِعُهُمُ الدَّاعِيِ وَيَنْفُذُهُم البَصَرُ … " الحديث بطوله . وفي حديث آخر : " أهل الجنة ، يوم القيامة ، مائة وعشرون صفًا ، أنتم منها ثمانون صفًا " . يقال لهم - أي : للكفرة منهم : { لقد جئتمونا كما خلقناكم أولَ مرة } ، وتركتم ما خولناكم وما أعطيناكم من الأموال وراء ظهوركم . أو : حفاة عراة غُرْلاً ، كما في الحديث . وهذه المخاطبة ، بهذا التقريع ، إنما هي للكفار المنكرين للبعث ، وأما المؤمنون المُقِرون بالبعث فلا تتوجه إليهم هذه المخاطبة ، ويدل عليه ما بعده من قوله : { بل زعمتم أن لن نجعل لكم موعدًا } أي : زعمتم في الدنيا أنه ، أي : الأمر والشأن ، لن نجعل لكم وقتًا يَتَنَجَّزُ فيه ما وعدته من البعث وما يتبعه . وهو إضراب وانتقال من كلام ، إلى كلام ، كلاهما للتوبيخ والتقريع . { ووضع الكتاب } أي : كتاب كل أحد ، إما في يمينه أو شماله ، وهو عطف على : { عُرِضوا } ، داخلٌ تحت الأمور الهائلة التي أريد بذكرها تذكير وقتها ، وأورد فيه ما أورد في أمثاله من صيغة الماضي لتحقق وقوعه ، وإيثار الإفراد للاكتفاء بالجنس ، والمراد : صحائف أعمال العباد . ووضعها إما في أيدي أصحابها يمينًا وشمالاً ، أو في الميزان . { فترى المجرمين } قاطبة ، المنكرون للبعث وغيرهم ، { مشفقين } : خائفين { مما فيه } من الجرائم والذنوب ، { ويقولون } ، عند وقوفهم على ما في تضاعيفه نقيرًا أو قطميرًا : { يا ويلتنا } أي : ينادون بتهلكتهم التي هُلكوها من بين التهلكات ، ومستدعين لها ليهلكوا ، ولا يرون تلك الأهوال ، أي : يا ويلتنا احضري فهذا أوان حضورك ، يقولون : { ما لهذا الكتاب لا يُغادرُ } : لا يترك { صغيرةً ولا كبيرةً } من ذنوبنا { إلا أحصاها } أي : حواها وضبطها ، وجملة { لا يغادر } : حال محققة لِمَا في الاستفهام من التعجب ، أو استئنافية مبنية على سؤال مقدر ، كأنه قيل : ما شأنه حتى يتعجب منه ؟ فقال : لا يغادر سيئة صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، { ووجدوا ما عملوا } في الدنيا من السيئات ، أو جزاء ما عملوا { حاضرًا } : مسطورًا عتيدًا ، { ولا يظلم ربُّك أحدًا } ، فيكتب ما لم يعمل من السيئات ، أو يزيد في عقابه المستحق له . والله تعالى أعلم . الإشارة : ويوم نُسير جبال الحس ، أو الوهم ، عن بساط المعاني ، وترى أرض العظمة بارزة ظاهرة لا تخفى على أحد ، إلا على أَكْمَهَ لا يُبصر القمر في حال كماله ، وحشرناهم إلى الحضرة القدسية ، فلم نغادر منهم ، أي : ممن ذهب عنه الحس والوهم ، أحدًا ، وعُرضوا على ربك لشهود أنوار جماله وجلاله ، صفًا ، للقيام بين يديه ، فيقول لهم : لقد جئتمونا من باب التجريد ، كما خلقناكم أول مرة ، مُطَهَّرِينَ من الدنس الحسي ، غائبين عن العلائق والعوائق ، وكنتم تزعمون أن هذا اللقاء لا يكون في الدنيا ، وإنما موعده الجنة ، ومن مات عن شهود حسه ، وعن حظوظه ، حصل له الشهود واللقاء قبل الموت الحسي ، ووضع الكتاب في حق أهل الحجاب ، فترى المجرمين من أهل الذنوب مشفقين مما فيه ، ووجود العبد : ذَنْبٌ لا يقاس به ذنب ، فَنَصْبُ الموازين ، ومناقشةُ الحسابِ إنما هو لأهل الحجاب ، وأما العارفون الفانون عن أنفسهم ، الباقون بربهم ، لم يبق لهم ما يُحاسبون عليه إذ لا يشهدون لهم فعلاً ، ولا يرون لأحد قوة ولا حولا . والله تعالى أعلم . ولمّا كان سبب العذاب ووجود الحجاب هو التكبر على رب الأرباب ، ذكر وبالَهُ بإثر الحشر والحساب ، أو تقول : لمَّا ذكر قصة الرجلين ذكر قُبح صنيع من افتخر بنفسه ، وأنه شبيه بإبليس ، وكل من افتخر واستنكف عن الانتظام في سلك فقراء المؤمنين كان داخلاً في حزبه . وقال الواحدي ثم الله تعالى نبيه أن يذكر لهؤلاء المتكبرين عن مجالسة