Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 2, Ayat: 153-157)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { أحياء } و { أموات } خبران عن مبتدأ مضمر ، والابتلاء هو الاختبار ، حيثما ورد في القرآن ، ومعناه في حقه تعالى : أنه يظهر في الوجود ما في علمه لتقوم الحجة على العبد ، وليس كاختبار الناس بعضهم بعضاً لأن الله علم ما كان وما يكون ، والصلاة هنا المغفرة والتطهير ، والرحمة : اللطف والإحسان . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا استعينوا } على نيل رضواني وبرِّي وإحساني { بالصبر } على مشاق الطاعات وترك المعاصي والهفوات ، وبالصلاة التي هي أم العبادات ، ومحل المناجاة ومعدن المصافاة ، فيها تشرق شوارق الأنوار ، وتتسع ميادين الأسرار ، وهي معراج أرواح المؤمنين ومناجاة رب العالمين ، فإن تجرعتم مرارة الصبر فإن { الله مع الصابرين } ، وأعظم مواطن الصبر عند مفارقة الأحباب ، وذهاب العشائر والأصحاب ، فإن كان موتهم في الجهاد فلا ينبغي لأجلهم أسف ولا نكاد لأنهم { أحياء عند ربهم يرزقون } ، وكذلك من ألحق بهم من ذي هَدْم وغَرَق وحرق ونفاسٍ وطاعون ، فلا تقولوا لمن يقتل { في سبيل الله } من هؤلاء : هم { أموات } ، { بل } هم { أحياء } حياة روحانية لا بشرية ، { ولكن لا تشعرون } بحياتهم لأنهم مجرد أرواح ، وأنتم لبستم طلسم الأشباح ، فاختفى عنكم مقام الأرواح ، وكذلك أرواح المؤمنين كلهم أحياء . وإنما خصّ الشهداء لمزيد بهجة وكرامة . وإجراء رزقهم عليهم دون غيرهم ، ففي الحديث : " أرْواحُ الشُّهَداءِ في حَواصِل طَيرٍ خضرٍ تَعَلقُ مِنْ وَرَقِ الجَنة " أي : تأكل ، وفي حديث آخر : " يَخْلُقُ اللهُ الشهداءَ جُسوماً على صُورةٍ طيرٍ خُضرٍ ، فتكونُ في حَواصِلهَا ، فَتسْرحُ بِها في الجَنة ، وتأكلُ مِنْ ثمارِها ، وتنالُ مِنْ خَيراتِها ونَعِيمها ، حتى تُحشرَ مِنها يومَ القِيامَةِ " . ولا يدخل الجنة أحد غيرهم إلى ميقاتها إلا الصدِّيقون ، وهم العارفون ، فهم أعظم من الجميع لمزيد تصرف وإدراك وسعة روح وريحان ، وتحقق شهود وعيان ، فهم في نعيم الجنان كالشهداء ، لكن الصديقين غير محصورين في حواصل الطيور ، بل لهم هياكل وصور سرحوا بها حيث شاءوا . وكذلك من فوقهم من الأنبياء والرسل ، والله تعالى أعلم . ثم قال الحق جلّ جلاله : ولنختبركم يا معشر المسلمين { بشيء } قليل { من الخوف } لهيجان العدو وصولة الكفار ، { والجوع } لغلاء الأسعار وقلة الثمار ، { ونقص من الأموال } بموت الحيوان وتعذر التجارة أو الخسران ، { والأنفس } بالموت في الجهاد ، { والثمرات } بذهابها بالجوائح . وعن الشافعي رضي الله عنه : الخوفُ خوفُ الله ، والجوعُ صومُ رمضان ، والنقصُ من الأموال بالزكوات والصدقات ، ومن الأنفسُ بالأمراض ، ومن الثمرات مَوتُ الأولاد . وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم : " إذا ماتَ ولَدُ العبد قال اللّهَ للملائكةِ : أقَبَضْتُمْ ولَدَ عَبدي ؟ فيقولون : نَعَم . فيقولُ اللّهُ تعالى : أقبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم . فيقول اللّهُ تعالى : ماذا قال ؟ فيقولون : حَمِدَك واستَرْجَع ، فيقول الله تعالى : ابْنُوا لعَبْدِي بَيْتاً في الجَنَّةِ وسَمُّوه بَيْتَ الحمدِ " . { وبشر الصابرين } يا من تتأتَّى منه البشارة { الذين إذا أصباتهم مصيبة } في بدن أو أهل أو مال أو صاحب { قالوا إنا لله } ملكاً وعبيداً يحكم فينا بما يريد { وإنا إليه راجعون } فيجازينا بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، فتغيب مصائب الدنيا في جانبه . وفي الحديث : " من أصابته مُصيبةٌ فقال : إنَّا لله وإنا إليه راجعُون . اللهم أجُرْنِي في مُصيبَتِي واخْلُفْ لي خَيْراً منها ، إلا أَخْلَفَ الله له خيراً مما أصابه " قالت أم سَلَمَة : فلما ماتَ زوجي أبو سَلَمَة قلتَ ذلك ، فأبدلني الله برسوله صلى الله عليه وسلم . { أولئك } الصابرون الراجعون إلى الله { عليهم صلوات } أي : مغفرة وتطهير { من ربهم ورحمة } أي : عطف ولطف { وأولئك هم المهتدون } لكل خير في الدنيا والآخرة . الإشارة : يا أيها الذين آمنوا بطريق الخصوص استعينوا على سلوك طريق حضرتنا ومشاهدة أنوار قدسنا بالصبر على ما تكره النفوس من ترك الحظوظ والشهوات ، والميل إلى العادات والمألوفات ، وبالصلاة الدائمة ، وهي صلاة القلوب بالعكوف في حضرة الغيوب . { إن الله مع الصابرين } بالمعونة والتأييد ، وإشراق أنوار التوحيد ، ولا تقولوا لمن ترونه قتل نفسه بالذل والافتقار ، وخرق العوائد وخلع العذار : إنه قد مات ، بل هو حي لا يموت ، قال الله تعالى : { لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى } فإذا ماتت نفس المريد . واستوى عنده الذل والعز والمدح والذم ، والغنى والفقر ، والموت والحياة ، فقد حييت روحه واتسع عليها فضاء الشهود ، وتمتعت بالنظرة إلى الملك المعبود ، فلا يزيدها الموت الحسيّ إلا اتصالاً وتمتعاً وشهوداً ، فهي في الترقي أبداً سرمداً ، ولكن لا تشعرون بما هم فيه في هذه الدار وفي تلك الدار . ويقال لهم عند إرادة سلوكهم الطريق إلى عين التحقيق : والله لنبلونكم يا معشر المريدين بشيء من إذاية الخلق وتضييق الرزق ، وذهاب الأموال ، وضعف الأبدان بالمجاهدة ، وتأخير الفتح بظهور ثمرة المشاهدة ليظهر الصادق في الطلب الثبوت في أحكام العبودية ، حتى تشرق عليها أنوار الربوبية ، ومن الكاذب بالرجوع إلى العوائد والشهوات ، والركون إلى الرخص والتأويلات ، { وبشر الصابرين } الثابتين في الطلب ، بالظفر بكل ما أمَّلُوا ، وبالوصول إلى ما إليه رحلوا ، الذين إذا أصابتهم نكبة أو وقفة تحققوا بضعف العبودية ، وتعلقوا بقوة الربوبية ، فرجعوا إلى الله في كل شيء ، فآواهم إليه من كل شيء ، أولئك عليهم تَحنُّنٌ من ربهم وتقريب ، وهم المهتدون إلى جوار الحبيب . قال ابن جزي : فائدة : وَرَدَ ذكر الصبر في القرآن في أكثر من سبعين موضعاً وذلك لعظم موقعه في الدين ، قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر معلوم إلا الصبر ، فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى : { إِنَمَّا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] . وذكر الله للصابرين ثمانياً من الكرامات . أولها : المحبة ، قال : { وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ } [ آل عِمرَان : 146 ] ، والثاني : النصر ، قال : { إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ } [ البَقَرَة : 153 ] ، والثالث : غرفات الجنة ، قال : { يُجْزَوْنَ ٱلْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُواْ } [ الفرقان : 75 ] والرابع : الأجر الجزيل ، قال : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ } والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية ، فمنها البشارة قال : { وبشر الصابرين } ، والصلاة والرحمة والهداية قال : { أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ } . والصبر على أربعة أوجه : صبر على البلاء ، وهو منع النفس عن التسخط والهلع والجزع ، وصبر على النعم ، وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان والتكبّر بها ، وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها ، وصبر على المعاصي بكف النفس عنها . وفوق الصبر التسليم ، وهو ترك الاعتراض والتسخط ظاهراً ، وترك الكراهية باطناً ، وفوق التسليم الرضا بالقضاء ، وهو سرور النفس بفعل الله ، وهو صادر على المحبة ، وكل ما يفعل المحبوب . هـ . ولمّا ذكر الحقّ تعالى الكعبة ، وأمر بالتوجهة إليها ، ناسب أن يذكر الصفا والمروة لقربهما منها ومشاركتهما لها في أمر الدين ، وذلك أن الصحابة تحرجوا أن يطوفوا بهما لأن الصفا كان عليه صنم يقال له إِسَاف ، وعلى المروة صنم يقال له نائلة ، فخافوا أن يكون الطواف بينهما تعظيماً لهما ، فرفع الله ذلك .