Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 2, Ayat: 243-243)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : الاستفهام للتعجب والتشويق ، والرؤية قلبية ، والواو للحال ، و { حَذَرَ } مفعول من أجله . يقول الحقّ جلّ جلاله : ألم تنظر يا محمد ، بعين الفكر والاعتبار ، { إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف } عشرة ، أو ثلاثون ، أو أربعون ، أو سبعون ، حذراً من { الموت } في زمن الطاعون . وكانوا في قرية يقال لها : داوردان فلما وقع بها الطاعون ، خرجت طائفة هاربين ، وبقيت أخرى ، فهلك أكثر من بقي ، وسلم الخارجون ، ثم رجعوا ، فقال الباقون : لو صنعنا مثلهم لبقينا ، لئن أصابنا الطاعون مرة ثانية لخرجنا ، فأصابهم من قابل ، فهربوا كلهم ، ونزلوا وادياً أفيح ، فناداهم ملك من أسفل الوادي ، وآخر من أعلاه ، أن : موتوا ، فماتوا كلهم أجمعون ، ومرت عليهم مدة ثمانية أيام أو أكثر حتى انتفخوا ، وقيل : صاروا عظاماً ، فمرَّ عليهم نبيّ الله حزقيل ، فدعا الله تعالى ، واستشفع فيهم ، فأحياهم الله ، وعاشوا دهراً ، عليهم سيما الموت لا يلبسون ثوباً إلا عاد كالكفن ، واستمر في أسباطهم . هـ . قال الأصمعي : لما وقع الطاعون بالبصرة ، خرج رجل منها على حمار معه أهله ، وله عبد يسوق حماره ، فأنشأ العبد يقول : @ لن يُسبَقَ اللّهُ على حِمار ولا على ذي مَشعَةٍ طَيّار قَدْ يُسبحُ الله أمَامَ السارِي @@ فرجع الرجل بعياله . والآية تدل على أن الفرار من الطاعون حرام في تلك الشريعة ، كما حرم في شرعنا ، وروى عبد الرحمن بن عوف أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " إِذَا سَمِعْتُمْ هذا الوباء بِبلد فَلاَ تَقْدُمُوا عَلَيْهِ ، وإذَا وَقَعَ بِبلد وَأَنْتُمْ فيه فَلاَ تَخْرُجُوا مِنْهُ " . قلت : وقد اختلف الأئمة في حكم الفرار والقدوم : فمنهم من شهر المنع فيهما تمسكاً بظاهر الحديث ، ومنهم من شهر الكراهة ، والمختار في الفرار : التحريم ، وفي القدوم : التفصيل ، فمن قوي يقينه ، وصفا توحيده ، حَلَّ له القدوم ، ومن ضعف يقينه ، بحيث إذا أصابه شيء نسب التأثير لغير الله حرم عليه القدوم . وفي حديث عائشة - رضي الله عنها - قلت : يا رسول الله ، ما الطاعون ؟ قال : " غدة كغدة البعير ، المقيم فيه كالشهيد ، والفارُّ منه كالفار من الزحْف " قال ابن حجر : كون المقيم فيه له أجر شهيد إنما بشرط أن يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له ، وأن يسلم إليه أمره ويرضى بقضائه ، وأن يبقى في مكانه ولا يخرج منه بقصد الفرار ، فإذا اتصف الجالس بهذه القيود حصل له أجر الشهادة ، ودخل تحته ثلاث صور ، الأولى : من اتصف بذلك فوقع له الطاعون ومات فهو شهيد . والثانية : من وقع به ولم يمت به فهو شهيد وإن مات بعد ذلك . والثالثة : من لم يقع به أصلاً ومات بغيره عاجلاً أو آجلاً فهو شهيد ، إذا حصلت فيه القيود الثلاثة ، ومن لم يتصف بالقيود الثلاثة فليس بشهيد ، ولو مات بالطاعون ، والله أعلم . هـ . وأما القدوم من بلد الطاعون إلى البلد السالمة منه فجائز . ولا يُمنع من الدخول ، قاله الباجي وابن حجر والحطاب وغيرهم لقوله - عليه الصلاة والسلام - : " لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ " وأما قوله عليه الصلاة والسلام : " فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ " وقوله : " لاَ يُرد مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ " فهو محمول على حسم المادة ، وسد الذريعة لئلا يحدث للمخالط شيء من ذلك ، فيظنه بسبب المخالطة ، فيثبت العدوى التي نفاها الشارع ، هذا المختار في الجمع بين الحديثين . والله تعالى أعلم . وإنما أطلت في المسألة لِمَسْ الحاجة لأن التأليف وقع في زمن الوباء ، حفظنا الله من وبالها . وقيل : إن الذين خرجوا من ديارهم قوم من بني إسرائيل ، أُمروا بالجهاد ، فخافوا الموت بالقتل في الجهاد ، فخرجوا من ديارهم فراراً من ذلك ، فأماتهم الله ليعرفهم أنهم لا ينجيهم من الموت شيء ، ثم أحياهم وأمرهم بالجهاد ، بقوله : { وقاتلوا في سبيل الله } الآية . وقوله تعالى : { إن الله لذو فضل على الناس } حيث أنزل بهم رحمته ، ففروا منها ، ولم يعاقبهم ، حيث أحياهم بعد موتهم ، { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } إذ لا يفهم النعم في طي النقم إلا القليل ، فيشكروا الله في السراء والضراء . الإشارة : ألم تر أيها السامع إلى الذين خرجوا من ديار عوائدهم وأوطان شهواتهم ، وهم جماعة أهل التجريد ، القاصدين إلى صفاء التوحيد ، الغرق في بحر التفريد ، حذراً من موت أرواحهم بالجهل والفَرْقِ ، فاصطفاهم الله لحضرته ، وجذبهم إلى مشاهدة ذاته ، فقال لهم الله : موتوا عن حظوظكم ، وغيبوا عن وجودكم ، فلما ماتوا عن حظوظهم ، وغابوا عن وجودهم ، أحياهم الله بالعلم والمعرفة ، { إن الله لذو فضل على الناس } حيث فتح لهم باب السلوك ، وهيأهم لمعرفة ملك الملوك ، { ولكن أكثر الناس لا يشكرون } حيث تجلّى لهم ، وعرَّفهم به ، وهم لا يشعرون ، إلا من فتح الله بصيرتهم ، وقليل ما هم .