Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 20, Ayat: 1-8)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : عن ابن عباس أن " طه " من أسماء الله تعالى ، وقيل : معناه : طوبى لمن هدى ، وقيل : يا طاهر يا هادي ، فالطاء تشير إلى طهارته صلى الله عليه وسلم وتطهيره من دنس الحس ، والهاء تشير إلى هدايته في نفسه ، وهدايته غيره إلى حضرة القدس . ورُوِيَ عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لي عشرة أسماء … " فذكر أن منها " طه ويس " ، وقيل : معناه : طِئ الأرض بقدمك لأنه كان يرفع رِجْلاً في الصلاة ويضع أخرى في طول تهجده ، فأبدل الهمزة ألفًا ، والضمير للأرض ، ورُد بأنه لو كان كذلك لكُتبت بالألف ، فإنَّ الكتابة بصورة الحرف مع التلفظ بخلافه من خصائص حروف المعجم . وقيل : معناه : يا رجل . وهو مروي عن ابن عباس والحسن ومجاهد وغيرهم ، وهو عندهم على اللغة النبطية ، أو السريانية . قيل : من جعل معنى " طه " يا رجل ، لم يقل على طه ، وكذا من جعله اسمًا للنبي صلى الله عليه وسلم لأن النداء تنبيه على ما بعده ، ومن جعلها افتتاحًا ، أو على وجه من الوجوه المذكورة في البقرة ، وقف عليها ، إلا في قول من جعلها قَسَمًا ، فإنه لا يقف عليها لأن قوله : { ما أنزلنا … } الخ جواب قسم . قلت : المتبادر من سبب نزولها ومن قوله : { ما أنزلنا } : إما القسم أو النداء ، فالقَسَم على أن ذلك من أسماء الله ، والنداء على كون ذلك بمعنى يا رجل ، أو من أسمائه صلى الله عليه وسلم . وأمَّا غير ذلك فبعيد ، إلا أن يكون ما بعد ذلك استئنافًا بعد الوقف على " طه " . قاله في الحاشية . و { إلاَّ تذكرة } : مفعول لأجله . والاستثناء منقطع ، أي : ما أنزلناه لتتعب به ، لكن أنزلناه للتذكرة والوعظ ، و { تنزيلاً } : مصدر مؤكد لمضمر مستأنف مقرر لما قبله ، أي : أنزل تنزيلاً ، والأصح : أنه بدل من اللفظ بفعله الناصب له ، فلا يجمع بينه وبين المبدل منه ، وفيه معنى التأكيد لما قبله ، أو هو نص في معناه ، وإنما تلون الكلام بالالتفات ، أو منصوب على المدح والاختصاص ، أو مفعول بيخشى ، أو حال من " القرآن " ، و { الرحمن } : رفع على المدح ، وقد عرفت أن المرفوع مدحًا ، في حكم الصفة الجارية على ما قبلها ، وإن لم يكن تابعًا له في الإعراب ، ولذلك ألزموا حذف المبتدأ ليكون في صورة متعلقٍ من متعلقاته . وقرئ بالجر صفةً للموصول ، وما قيل من أن الموصولات لا تُوصف إلا بالذي وحده فمذهب كوفي ، أو { الرحمن } : مبتدأ ، و { على العرش } : خبره . و { على } : متعلقة باستوى ، قُدمت للفواصل . و { إن تجهر } : شرط ، والجواب محذوف دل عليه { فإنه … } الخ ، أي : فالله غني عن جهرك ، فإنه . … الخ . يقول الحقّ جلّ جلاله : تسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، أو ترويحًا له من التعب : يا محمد { ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى } أي : لتتعب نفسك بالمجاهدة في العبادة . رُوِيَ أنه صلى الله عليه وسلم كانَ يَقُومُ باللّيل حَتَّى تَوَرّمَتْ قَدَمَاهُ ، فقَالَ لهُ جِبْرِيلُ عليه السلام : " أبْق عَلى نَفْسِكَ ، فإِنَّ لَها عَلَيْكَ حَقًا " . أي : ما أنزلناه عليك لتتعب بنهك نفسك وحملها على الرياضَات الشاقة ، و الشدائد الفادحة ، وما بعثتَ إلا بالحنيفية السمحة . أو : ما أنزلناه لتتعب نفسك في تبليغه بمكابدة الشدائد في مقاومة العتاة ومحاورة الطغاة ، وفرط التأسف على كفرهم والتحسر على إيمانهم ، كقوله : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشُّعَرَاء : 3 ] ، بل للتبليغ ، وقد فعلت . وإطلاق الشقاء في هذا المعنى شائع ، ومنه قولهم : أشقى من رائض مُهر ، وقيل : إن أبا جهل والنضر بن الحارث قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إنك شقي ، حيث تركت دين آباءك ، وما نزل عليك هذا القرآن إلا لتشقى ، فردَّ اللهُ ذلك عليهم . والأول أظهر ، والعموم أحسن ، فإنه نفى عنه جميع الشقاء في الدنيا والآخرة . { إِلا تذكرةً لمن يخشى } أي : ما أنزلناه لتتعب ، لكن أنزلناه تذكرة وموعظة لمن يخشى الله - عزّ وجلّ - ، ليتأثر بالإنذار ، لرقة قلبه ولين عريكته ، أو لمن عَلِمَ الله أنه يخشى بالتخويف ، وتخصيصها بهم مع عموم التذكرة والتبليغ لأنهم المنتفعون بها . { تنزيلاً } أي : أنزل تنزيلاً ، أو حالَ كَوْنِ القرآن تنزيلاً ، أي : منزلاً { ممّن خلق الأرض والسماوات العلى } ، ونسبة التنزيل إلى الموصول بعد نسبته إلى نون العظمة بقوله : { ما أنزلنا } لبيان فخامته تعالى بحسب الأفعال والصفات ، إثر بيانها بحسب الذات بطريق الإبهام ، ثم التفسير لزيادة تحقيق وتقرير . وتخصيص خلقهما بالذكر لتضادهما . وتقديم الأرض لكونه أقرب إلى الحس ، ووصف السماوات بالعُلى ، وهو جمع " عليا " لتأكيد الفخامة مع ما فيه من مراعاة الفواصل . وكل ذلك إلى قوله : { له الأسماء الحسنى } ، مسوق لتعظيم المنزل - عزّ وجلّ - المستتبع بتعظيم المنزَّل عليه ، الداعي إلى تربية المهابة وإدخال الروعة ، المؤدية إلى استنزال المتمردين عن رتبة العتو والطغيان ، واستمالتهم إلى الخشية ، المفضية إلى التذكير والإيمان . ثم قال تعالى : { الرحمنُ } أي : هو الرحمن ، ووصف تعالى بالرحمانية إثر وصفه بالخالقية للإيذان بأن ربوبيته تعالى ، وقيامَه بالأشياء ، من طريق الرحمة والإحسان ، لا بالإيجاب ، وفيه إشارة إلى أن تنزيله القرآن أيضًا من رحمته - تعالى - ، كما ينبئ عنه قوله عزّ من قائل : { ٱلرَّحْمَـٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْآنَ } [ الرَّحمن : 1 ، 2 ] . أو : { الرحمن على العرش استوى } : مبتدأ وخبر ، وجعل الرحمة عنوان الموضوع الذي من شأنه أن يكون معلوم الثبوت للموضوع عند المخاطب للإيذان بأن ذلك أمر بيِّن لا خفاء فيه ، غني عن الإخبار صريحًا . والاستواء على العرش مجاز عن المُلك والسلطان ، يقال : استوى فلان على سرير الملك مرادًا به مَلَك الملك والتصرف ، وإن لم يقعد على سرير أصلاً ، والمراد : تعلق قدرته وقهريته في جميع الكائنات بالتدبير والتصرف التام . وسُئل أحمد بن حنبل عن الاستواء ، فقال : استواء مَنْ غَلَبَ وقهر ، لا استواء كما يتوهم البشر . وسئل عنه مالك والشافعي - رضي الله عنهما - فقالا : الاستواء معلوم ، والكيفية مجهولة ، والإيمان به واجب ، والسؤال عن هذا بدعة وضلالة ، آمنوا بلا تشبيه ، وصدّقوا بلا تمثيل ، وأمسكوا عن الخوض في هذا كل الإمساك . وقال الجنيد رضي الله عنه : خلق الله العرش فوق سبع سماوات ، وجعله قبلة لدعاء المخلوقات ، وقابله بقلب عبده المؤمن ، ليكون محلاً للتجليات والتنزلات والمخاطبات . هـ . وقد تقدم الكلام عليها في الأعراف مستوفيًا . { له ما في السماوات وما في الأرضِ } ، سواء كان ذلك بالجزئية منهما أو بالحلول فيهما ، { وما بينهما } من الموجودات الكائنة في الجو دائمًا ، كالهواء والسحاب ، أو أكثريًا كالطير ، أي : له ذلك وحده دون غيره ، لا شركةً ولا استقلالاً ، كل ما ذكر هو له ملكًا وتصرفًا ، وإحياء وإماتة ، وإيجادًا وإعدامًا ، { وما تحت الثرى } : وما وراء التراب المتصل بالهوى السفلى . وعن محمد بن كعب : أنه ما تحت الأرضين السبع . وعن السدي : أن الثرى هو الصخرة التي عليها الأرض السابعة ، وذكره مع دخوله تحت ما في الأرض لزيادةِ التقرير . { وإِن تجهر بالقول } أي : وإن تجهر بذكره تعالى - أو دعائه - ، فاعلم أنه تعالى غني عن جهرك { فإِنه يعلمُ السرَّ وأخْفَى } أي : ما أسررته إلى غيرك ، وشيئًا أخفى من ذلك ، وهو ما أخطرته ببالك ، من غير أن تتفوه به أصلاً أو : : السر : ما أسررته في نفسك ، وأخفى منه : ما ستُسره في المستقبل . وهو إمّا نهي عن الحركة ، كقوله تعالى : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [ الأعرَاف : 205 ] ، وإما إرشاد للعباد إلى أن الجهر ليس لإسماعه تعالى بل لغرض آخر من تأنيس النفس بالذكر وتثبيته فيها ، ومنعها من الاشتغال بغيره ، وقطع الوسوسة عنها ، وهضمها بالتضرع والجؤار . هذا والغرض من الآية : بيان إحاطة علمه تعالى بجميع الأشياء ، إثر بيان سعة سلطانه وشمول قدرته بجميع الكائنات . ثم بيَّن الموصوف بتلك الكمالات ، فقال : { الله } أي : ما ذكر من صفات الكمال ، موصوفها الله المعبود بالحق ، { لا إِله إِلا هو } أي : لا معبود بحق إلا هو ، ولا مستحق للعبادة إلا هو . وهو تصريح بما تضمنه ما قبله من اختصاص الألوهية به سبحانه ، فإنَّ ما أسند إليه تعالى من خلق جميع الموجودات ، ومن الرحمانية والمالكية للكل ، والعلم الشامل ، يقتضي اختصاصه تعالى بالألوهية والربوبية ، وقوله تعالى : { له الأسماء الحسنى } بيان لكون ما ذكر من الخالقِية والرحمانية والمالكية والعالِمِية أسماءه تعالى وصفاته ، من غير تعدد في ذاته تعالى فالأسماء والصفات كثيرة ، والمسمى والموصوف واحد . و { الحسنى } : تأنيث الأحسن ، فُعلى ، يُوصف به الواحد المؤنث ، والجمع المذكر والمؤنث ، كـ { مَآرِبُ أُخْرَىٰ } [ طه : 18 ] ، و { آيَاتِنَا ٱلْكُبْرَىٰ } [ طه : 23 ] . والله تعالى أعلم . الإشارة : من تأمل القرآن العظيم ، وما جاء به الرسول - عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم - وجده يدل على ما يُفضي إلى الراحة دون التعب ، وإلى السعادة العظمى دون الشقاء ، لكن لا يتوَصل إلى الراحة إلا بعد التعب ، ولا يُفضي العبد إلى السعادة الكبرى إلا بعد الطلب ، فإذا اجتهد العبد في طلب ربه ، وكله إلى شيخ ينقله من عمل الجوارح إلى عمل القلوب ، فإذا وصل العمل إلى القلب استراحت الجوارح ، وأفضى حينئذ إلى رَوْح وريحان ، وجنة ورضوان ، أعني جنة العرفان . ولذلك قال الشيخ أبو الحسن : " ليس شيخك من يدلك على تعبك ، إنما شيخك من يريحك من تعبك " ، كما في لطائف المنن . وقال شيخنا القطب ابن مشيش : وقد سُئل عن قوله صلى الله عليه وسلم : " يَسِّرُوا ولا تُعَسِّرُوا " فقال : دلوهم على الله ، ولا تدلوهم على غيره ، فإن من دَلَّك على الدنيا فقد غشك ، ومن دلَّك على العمل فقد أتعبك ، ومن دلَّك على الله فقد نصحك . هـ . فإذا دلك على الله غَيَّبك عن وجود نفسك بشهود ربك ، وهي السعادة العظمى ، كما تقدم في سورة هود . فمن اتخذ شيخًا ثم لم ينقله من مقام التعب ، ولم يُرحله من مقام إلى مقام ، فاعلم أنه غير صالح للتربية . وقوله تعالى : { إِلا تذكرة لمن يخشى } ، قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف : قيل : أنزل اللهُ القرآنَ لتذكير سابق الوصال لأن الأرواح لمّا دخلت الأشباح اكتسبت خشية ووحشة وفرقة عن معادنها ، فأنزل الله القرآن تأنيسًا لأن المحب يأنس بكتاب حبيبه وكلامه . وقال جعفر الصادق : أنزل اللهُ القرآنَ موعظةً للخائفين ، ورحمة للمؤمنين ، وأنسًا للمحبين . وايضًا : القرآن يُذَكّر عظمة الله الموجبة خشيته ، فهو مُذهب للغفلة . ثم قال : وفي الشهود الحاصل بالتذكير رفعُ المشقة ، ووجدان الراحة بالطاعة ، لكونه يصير محمولاً ، وقد قال : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] ، أي : لشهودي فيها ، وفي ذلك قرة عين ، وراحةٌ ، وأنس ، وتشابه حال المصلي بحال موسى ، بجامع النجوى ، فلذلك ذكر في سياقه . والله أعلم . هـ . وقوله تعالى : { الرحمنُ على العرش استوى } ، تفسيرها هو الذي قصد ابن عطاء الله في الحِكَم بقوله : " يا من استوى برحمانيته على عرشه ، فصار العرش غيبًا في رحمانيته ، كما صارت العوالم غيبًا في عرشه ، مَحَقْتَ الآثار بالآثار ، ومحوت الأغيار بمحيطات أفلاك الأنوار . وأنت خبير بأن الرحمانية وصف لازم للذات ، والصفة لا تفارق الموصوف ، فإذا استوت الرحمانية على العرش وغمرته فقد استوت عليه أسرار الذات وغمرته ، وهي أفلاك الأنوار التي أحاطت بالعرش والآثار ، ومحت كل شيء ، حتى لم يبق إلا الذي ليس كمثله شيء ، وليس معه شيء ، وهو السميع البصير . وما نسبة حس الآثار بالنسبة إلى أفلاك الأسرار التي استوت عليه إلا كالهباء في الهواء . والله تعالى أعلم وأعظم . ثمَّ ذكر قصص موسى عليه السلام وتسليته لرسوله صلى الله عليه وسلم