Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 21, Ayat: 51-56)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { إذ قال } : ظرف لآتينا ، أو لرُشْدَه . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد آتينا إِبراهيم رُشدَه } أي : الرشد اللائق به وبأمثاله من كُبراء الرسل ، وهو الاهتداء الكامل ، المستند إلى الهداية الخاصة الحاصلة بالوحي ، مع الاقتدار على إصلاح الأمة وإرشادها بسياسة النبوة والوحي الإلهي ، { من قبلُ } أي : من قبل إيتاء موسى وهارون التوراة ، وتقديم ذكرهما ، لما بين التوراة والقرآن من الشبه التام . وقيل : من قبل إنزال القرآن ، أو من قبل استنبائه ، أو من قبل بلوغه ، { وكُنا به عَالمين } أي : بأنه أهل لما آتيناه ، أو عالمين برُشده ، وما خصصناه به من الهداية الخاصة . { إذ قال لأبيه وقومه } أي : آتيناه ذلك حين قال لأبيه ، أو اذكر وقت قوله لهم : { ما هذه التماثيلُ } أي : الأصنام المصورة على صورة السباع والطيور والإنسان ، وفيه تجاهل بهم تحقيرًا لها ، مع علمه بتعظيمهم لها توبيخًا لهم على إجلالها مع كونها خشبًا وأحجارًا لا تضر ولا تنفع ، { التي أنتم لها عاكفون } أي : لأجل عبادتها مقيمون ، فلما عجزوا عن الدليل { قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين } فقلدناهم ، فأبطله عليه السلام ، على طريقة التوكيد بالقسم ، فقال : { لقد كنتم أنتم وآباؤكم } الذين سنُّوا لكم هذه السُّنَّة الباطلة ، { في ضلال مبين } : ظاهر بيِّن ، بحيث لا يخفى على أحد من العقلاء ، أي : والله لقد كنتم مستقرين في ضلال عظيم ظاهر لعدم استناده إلى دليل ، فالتقليد إنما يجوز فيما يحتمل الحَقِّية في الجملة ، لا فيما اتضح بطلانه ، سيما في أمر التوحيد . { قالوا أجئتنا بالحق } أي : بالجد ، { أم أنت من اللاعبين } ، فتقول ما تقول على الملاعبة والمزاح . والمعنى : أجادٌ أنتَ ، أم لاعب فيما تقول ؟ قالوا ذلك استعظامًا منهم لإنكاره ، واستبعادًا لكون ما هم عليه ضلال ، وتعجيبًا من تضليله إياهم . ثم أضرب عنهم مخبرًا بأنه جاد فيما قال ، غير لاعب ، بإقامة البرهان على بطلان ما ادعوه فقال : { بل ربُّكم ربُّ السماواتِ والأرض الذي فطرهنَّ } ، لا التماثيل التي صورتم . وقيل : هو إضراب عما بنوا عليه مقالتهم من اعتقاد كونها أربابًا لهم ، كما يُفصح عنه قولهم : { نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } [ الشُّعَرَاء : 71 ] ، كأنه قال : ليس الأمر كذلك ، بل ربكم رب السماوات والأرض الذي خلقهن وأنشأهن ، فالضمير للسماوات والأرض ، وصفَه تعالى بإيجادهن ، إثر وصفه تعالى بربوبيته لهن تحقيقًا للحق ، وتنبيهًا على أن ما لا يكون كذلك بمعزل من الربوبية ، أي : أنشأهن بما فيهن من المخلوقات ، التي من جملتها أنتم وآباؤكم وما تعبدونه ، من غير مثالٍ يحتَذِيه ، ولا قانون ينتحيه . وقيل : الضمير للتماثيل ، وهو أدخل في تضليلهم ، وأظهر في إلزام الحجة عليهم لِمَا فيه من التصريح المُغني عن التأمل في كون ما يعبدونه من المخلوقات ، والأول أقرب . ثم قال عليه السلام : { وأنا على ذلكم } الذي ذكرتُ : من كون ربكم رَبَّ السماوات والأرض ، دون ما عداه ، كائنًا ما كان ، { من الشاهدين } أي : العالمين به على سبيل الحقيقة ، المبرهنين عليه ، فإن الشاهد على الشيء : مَنْ تحققه وبرهن عليه ، كأنه قال : وأنا أعلم ذلك ، وأتحققه ، وأُبرهن عليه ، والله تعالى أعلم . الإشارة : زخارف الدنيا وبهجتها ، من تشييد بناء ، وتزويق سقف وحيطان ، وإنشاء غروس وبساتين ، وجمع أموال ، وتربية جاه ، كلها تماثيل لا حقيقة لها ، فانية لا دوام لها . فمن عكف عليها ، وأولع بخدمتها وجمعها وتحصيلها ، كان عابدًا لها ، فينبغي لذي الرشد والعقل الوافر ، الذي تحرر منها ، أن يُنكر عليهم ، ويقول لهم : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون ، فإن قالوا : وجدنا أباءنا يفعلون هذا ، وعلماءنا مثلنا ، فليقل لهم : لقد كنتم وآباؤكم وعلماؤكم في ضلال مبين ، عما كان عليه الأنبياء والأولياء والسلف الصالح . فإن قالوا : أجادٌّ أنت أم لا ؟ فليقل : بل ربكم الذي ينبغي أن يُفرد بالمحبة والخدمة ، وهو رب السماوات والأرض ، لا ما أنتم عليه من محبة الدنيا وبهجتها ، وأنا على ذلكم من الشاهدين . ثمَّ ذكر كسره الاصنام وما ترتب عليه