Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 22, Ayat: 77-78)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ملة أبيكم } : منصوب بمحذوف ، أي : اتبعوا ملة إبراهيم . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا } في صلاتكم ، وكانوا أول ما أسلموا يصلون بلا ركوع وسجود ، فأمروا أن تكون صلاتهم بركوع وسجود ، وفيه دليل على أن الأعمال ليست من الإيمان ، وأن هذه السجدة للصلاة لا للتلاوة ، قاله النسفي . { واعبدوا ربكم } أي : واقصدوا بعبادتكم وجه الله ، وأخلصوا فيها ، أو هو عطف عام على خاص فإن العبادة أعم . { وافعلوا الخير } كله . قيل : لما كان للذكر مزية على غيره دعا المؤمنين أولاً للصلاة التي هي ذكر خالص لقوله : { وَأَقِمِ ٱلصَّلاَةَ لِذِكْرِيۤ } [ طه : 14 ] ، ثم إلى العبادة بغير الصلاة ، كالصوم والحج ، ثم عم بالحث على سائر الخيرات . وقال ابن عرفة : وافعلوا الخير : راجع للعبادة المتعدية ، وما قبله يختص بالقاصرة . قال المحشي : وفيه نظر لشمول العبادة لِمَا هو متعدي النفع ، كتعليم العلم ، والصدقة ونحو ذلك ، بل أمر أولاً بالصلاة ، وهي نوع من العبادة ، وثانيًا بالعبادة ، وهي نوع من فعل الخير ، وثالثًا بفعل الخير ، وهو أعم من العبادة . فبدأ بخاص ثم عام ثم بأعم . هـ . { لعلكم تُفلحون } : كي تفوزوا ، أي : افعلوا هذا كله ، وأنتم راجون للفلاح غير مستيقنين ، فلا تتكلوا على أعمالكم . { وجاهدوا في الله } أي : في ذات الله ومن أجله { حقَّ جهاده } ، أمرٌ بالغزو وبمجاهدة النفس والهوى ، وهو الجهاد الأكبر ، ومنه : كلمة حق عند أمير جائر . قال - عليه الصلاة والسلام - : " أعمال البر كلها ، إلى جنب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، كنفثة إلى جنب البحر ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلى جنب الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ كنفثة في بحر ، والجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ إلى جنب مجاهدة النفس عن هواها في اجتناب النهي ، كنفثة في جنب بحر لجيّ " وهذا على معنى الخبر الذي جاء : " جئتم من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " يعني : مجاهدة النفس . قاله في القوت . قال القشيري : حق الجهاد ما يوافق الأمر في القَدْرِ والوقتِ والنوعِ ، فإذا حَصَل في شيءٍ منه مخالفة فليس حَقَّ جهاده . هـ . قلت : موافقة القَدْر ، في جهاد النفس ، أن يكون بغير إفراط ولا تفريط ، فالإفراط يُمل ، والتفريط يُخل ، وموافقة الوقت أن يكون قبل حصول المشاهدة إذ لا تجتمع مجاهدة ومشاهدة في وقت واحد . والنوع أن يجاهدها بما يُباح في الشرع ، لا بمحرم ولا مكروه . وقال في الحاشية : هو الوفاء بالمشروع مع رفع الحرج ، بدليل ما بعده ، فهو موافق لقوله تعالى : { فَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ مَا ٱسْتَطَعْتُمْ } [ التّغَابُن : 16 ] ، ومما هو ظاهر في الآية : الذب عن دينه وتغيير المناكر . هـ . { هو اجتباكم } : اختاركم لدينه بإظهاره والذب عنه ، وهو تأكيد للأمر بالجهاد ، أي : وجب عليكم أن تجاهدوا لأنَّ الله اختاركم لإظهار دينه ، { وما جعل عليكم في الدين من حَرجٍ } : ضيقٍ ، بل وسع عليكم من جميع ما كلفكم به ، من الطهارة ، والصلاة والصوم والحج ، بالتيمم والإيماء ، وبالقصر في السفر ، والإفطار لعذر ، وعدم الاستطاعة في الحج . فاتبعوا { ملةَ أبيكم إِبراهيم } فإن ما جاءكم به رسولكم موافق لملته في الجملة ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " جئتكم بالحنيفية السمحة " . وسماه أبًا ، وإن لم يكن أبًا للأمة كلها لأنه أبو رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أبًا لأمته لأن أمة الرسول في حكم أولاده . قال صلى الله عليه وسلم : " إنَمَّا أَنَا لكُمْ مِثْلُ الوَالِدِ " . { هو سماكم المسلمين } أي : الله ، بدليل قراءة أُبي : " الله سماكم " أو إبراهيم لقوله : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البَقَرَة : 128 ] { من قبلُ } أي : سماكم من قبل ظهورهم في الكتب السالفة ، { وفي هذا } أي : القرآن ، فقد فضلكم على سائر الأمم ، وسماكم بهذا الاسم الأكرم ، { ليكون الرسولُ شهيدًا عليكم } أنه قد بلغكم رسالة ربكم ، { وتكونوا شهداء على الناس } بتبليغ الرسل رسالات الله إليهم . وإذا خصكم بهذه الكرامة والأثرة { فأقيموا الصلاة } بواجباتها ، { وآتوا الزكاة } لشرائطها ، { واعتصموا بالله } أي ثقوا به وتوكلوا عليه ، لا بالصلاة والزكاة . أو : ثقوا به في جميع أموركم ، ولا تطلبوا الإعانة والنصر إلا منه . { هو مولاكم } : مالككم وناصركم ومتولي أموركم ، { فنعم المولى } حيث لم يمنعكم رزقكم بعصيانكم ، { ونعمَ النصير } أي : الناصر حيث أعانكم على طاعتكم ومجاهدة نفوسكم وأعدائكم . الإشارة : يا أيها الذين آمنوا تقربوا إليَّ بأنواع الطاعات وبالمسارعة إلى الخيرات ، لعلكم تفوزون بمعرفة أسرار الذات وأنوار الصفات ، وجاهدوا نفوسكم بأنواع المجاهدات ، كي أجتبِيكم وأنزهكم في أسرار ذاتي ، فإني قد اجتبيتكم قبل كونكم في أزل أزلي . وكأنه يشير إلى قوله : " لا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أُحبه ، فإذا أحببتُه كنت سمعه الذي يسمع به … " الحديث . والمأمورُ به من التقرب والمجاهدة قدر الاستطاعة ، من غير تشديد ولا تعقيد ، لقوله : { وما جعل عليكم في الدين من حَرج } لأن مبني الشرع الكريم على السهولة ، فالذي يتوصل إلى رضوانه أو صريح معرفته ، لا يشترط أن يستغرق كنه إمكان العبد فيه . " لو كنت لا تصل إليه إلا بعد فناء مساوئك ومحو دعاويك ، لم تصل إليه أبدًا ، ولكن إذا أراد أن يُوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ، ونَعْتَكَ بنعته ، فوصلك بما منه إليك ، لا بما منك إليه " . كما في الحِكَم . وقال الورتجبي : { وما جعل … } الآية ، أي : إذا شاهدتم مشاهد جمالي سهل عليكم فناؤكم في جلالي ، وسهل عليكم بذل مهجكم إليه . ألا ترى كيف قال : { ملة أبيكم إبراهيم } ، ومن ملته : الاستسلام والانقياد ، وبذل الوجوه بنعت السخاء والكرم ، يا أسباط خليلي ، رأى أبوكم استعداد هذه المراتب الشريفة فيكم ، قبل وجودكم بنور النبوة ، فسماكم المسلمين ، أي : منقادين بين يديَّ ، عارفين بوحدانيتي . وفيما ذكرنا من أوصافكم ، حبيبي شاهد عليكم ، يعرف هذه الفضائل منكم ، وهو بلغكم نشر فضائلي عليكم . ثم قال : اطلبوا الاعتصام مني ، استعينوا لأقويكم في طاعتي . ثم قال : { فنعم المولى } حيث لا مولى غيره ، { ونعم النصير } حيث لا يُخذل من نصره فإن الله عزيز ممتنع من نقائص النقص . قال جعفر في قوله : { حق جهاده } : ألاَّ تختارَ عليه شيئًا ، كما لم يختر عليك لقوله : { هو اجتباكم } . هـ . وقوله تعالى : { وتكونوا شهداء على الناس … } الآية ، أي : اجتباكم واختاركم وسماكم مسلمين ، لتكونوا مرضيين عدولاً ، تشهدون على الأمم ، كما يشهد محمد صلى الله عليه وسلم عليكم ويزكيكم ، فهو كقوله تعالى : { جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ } [ البَقَرَة : 143 ] الخ . وإذ قد خصكم بهذه الكرامة والأثرة فاعبدوه وثقوا به ، ولا تطلبوا الولاية والنصرة إلا منه فهو خير ولي وناصر ، ومن كان الله تعالى مولاه وناصره فقد أفلح وفاز ، ولذلك افتتح السورة التي تليها به . وبالله التوفيق . وهو الهادي إلى سواء الطريق .