Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 130-134)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : الكظم هو : الكف والحبس ، تقول : كظمت القربة : إذا ملأتها وسددت رأسها . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا } وتزيدوا فيها إذا حلَّ الأجل { أضعافاً مضاعفة } ، ولعل التخصيص بحسب الواقع ، إذ كان الرجل يَحُلُّ أجلُ دَيْنِهِ ، فيقول للمدين : إما أن تقضي وإما أن تزيد ، فلا يزال يؤخره ويزيد في دينه حتى يستغرق مال المدين ، فنُهوا عن ذلك . ورغبهم في التقوى التي هي غنى الدارين . فقال : { واتقوا الله } فيما نهيتكم عنه ، { لعلك تفلحون } في الدارين . ثم خوفهم بالنار إن لم ينتهوا ، فقال : { واتقوا النار التي أعدت للكافرين } ، وفيه إشعار بأن النار موجودة إذ لا يُعدُّ المعدوم ، وأنها بالذات معدة للكافرين ، وبالعرض للعاصين . قال الورتجبي : في الآية إشارة إلى أن النار لم تعد للمؤمنين ، ولم تخلق لهم ، ولكن خوفهم بها زجراً وعظة ، كالأب البار المشفق على ولده يخوفه بالأسد والسيف ، وهو لا يضربه بالسيف ، ولا يلقيه إلى الأسد ، فهذه الآية تلطف وشفقة على عباده . هـ . { وأطيعوا الله } فيما أمر ونهى ، { والرسول } فيما شرع وسَنَّ ، { لعلكم ترحمون } . والتعبير بلعل وعيسى في أمثال هذه : دليل على عون التوصل إلى ما جعل طريقاً له . { وسارعوا } : أي : بادروا { إلى مغفر من ربكم } كالإسلام والتوبة والإخلاص ، وسائر الطاعات التي توجب المغفرة ، وقرأ نافع وابن عامر بغير واو على الاستئناف . وسارعوا أيضاً إلى { جنة عرضها السماوات والأرض } لو وصل بعضها ببعض ، وذكر العرض للمباغلة في وصفها بالسعة لأنه دون الطول . قال بعضهم : لم يُرد العَرض الذي هو ضد الطول ، وإنما أراد عظمها ، ومعناه : كعرض السماوات السبع والأرضين السبع في ظنكم ، أي : لا تدرك ببيان . { أُعِدّت } أي : هُيِّئَتْ { للمتقين } . وفيه دليل على أن الجنة مخلوقة ، وأنها خارجة عن هذا العالم . ثم وصف أهلها من المتقين بأوصاف الكمال ، فقال : { الذين ينفقون في السراء والضراء } أي : في حالتي الرخاء والشدة ، وفي الأحوال كلها ، كما هي حالة الأسخياء ، قال صلى الله عليه وسلم : " الجنَّةُ دَارُ الأسخياءِ " وقال أيضاً : " السَّخيُّ قريب ٌ مِنَ اللهِ ، قَرِيبٌ من الجنَّةِ ، قَرِيبٌ منَ النَّاس ، بعيدً من النَّارِ ، والبَخيلُ بَعيدٌ من الله ، بَعِيدٌ مِنَ الجَنَّةِ ، بَعِيدٌ ، مِنَّ النَّاس ، قرِيبٌ مِنَ النَّارِ ، ولجَاهِلٌ سَخِيٌ أحبُّ إلى اللهِ مِنَ العالمِ البَخِيل " وقال أيضاً صلى الله عليه وسلم : " السّخَاء شَجَرةٌ في الجنة ، أغصانُها في الدُّنيا ، من تعلق بَغُصنٍ من أغْصَانِها قادَته إلى الجنَّةِ ، والبخْلُ شَجرةٌ في النَّارِ ، أغصَانُها في الدُّنيا ، من تعلق ببعض من أغصانها قَادَته إلى النَّارِ " . { والكاظمين الغيظ } أي : الكافين عن إمضائه مع القدرة عليه ، قال عليه الصلاة والسلام " مَنْ كَظَمَ غَيْظاً وهُو يَقْدِرُ على إمْضَائِهِ مَلأَ اللهُ قَلْبَهُ أمْناً وإِيمَاناً " . وقال بعض الشعراء : @ وَإذَا غَضِبْتَ فَكُنْ وَقُوراً كَاظِماً لِلْغَيْظِ ، تُبْصر مَا تَقُولُ وتَسْمَعُ فَكَفَى بِهِ شَرَفاً ، تَصَبُّرُ سَاعَةٍ يَرْضَى بِهَا عَنْكَ الإلَهُ ويَرْفَعُ @@ { والعافين عن الناس } أي : عمن ظلمهم ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال عند ذلك : " إنَّ هؤلاءِ في أُمتي قليلٌ ، مَنْ عَصَمَ الله ، وقد كَانُوا كثيراً في الأمم التي مَضَت " وعَنْ أبي هريرة : أن أبا بكر كان مع النبيّ صلى الله عليه وسلم في مجلس ، فجاء رجل فوقع في أبي بكر ، وهو ساكت ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم يبتسم ، ثم ردَّ أبو بكر بعضَ الرد ، فغضب عليه الصلاة والسلام - وقام ، فلحقه أبو بكر ، وقال : يا رسول الله ، شتمني وأنت تبتسم ، ثم رَدَدْتُ عليه بعضَ ما قال ، فغضبتَ وقُمتَ . قال : " حين كنتَ ساكتاً كان معك مَلَكٌ يردُّ عليه ، فلما تكلمتَ وقع الشيطان ، فلم أكُنْ لأقعدَ في مقعدْ فيه الشيطان ، يا أبا بكر ، ثلاثٌ حق : تعلم أنه ليس عبد يظلم مظلمة فيعفو عنها إلا أعز الله بها نصره ، وليس عبد يفتح باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله قلة ، وليس عبد يفتح عطية أو صلة إلا زاده الله بها كثرة " . { والله يحب المحسنين } الذين أحسنوا فيما بينهم وبين الله ، وفيما بينهم وبين عباد الله ، و " أل " : يحتمل أن تكون للجنس ، فيعم كل محسن ، أو للعهد ، فتكون الإشارة إلى من تقدم ذكرهم . الإشارة : كل ما يُقوي مادة الحس فهو ربا لأنه يربي الحسن ويقوي مادة الغفلة ، فلا ينبغي لمريد أن يضاعفه ويتعاطى أسباب تكثيره ، بل ينبغي أن يفر من موارده ، وهي ثلاثة : مباشرة الحس ، أو الفكر فيه ، أو الكلام مع أهله فيه . والذي يقوي مادة المعنى ثلاثة : صحبة أهل المعنى ، والفكرة في المعاني ، وذكر الله بالقلب . واتقوا الله في مباشرة الحسن { لعلكم تفلحون } بالوصول إلى صف المعاني ، واتقوا نار القطيعة التي أعدت لمنكر الخصوصية ، { وأطيعوا الله والرسول } فيما ندبكم إليه ، { لعلكم ترحمون } بالوصول إلى صفة المعاني ، واتقوا نار القطيعة التي أعدت لمنكر الخصوصية ، { وأطيعوا الله والرسول } فيما ندبكم إليه ، { لعلكم ترحمون } بإحياء قلوبكم وأرواحكم وأرواحكم بأسرار المعاني ، وسارعوا إلى ما يوجب تغطية مساوءكم ، حتى يغطي وصفكم بوصفه ، ونعتكم بنعته ، فيوصلكم بما منه إليكم ، لا بما منكم إليه ، فتدخلوا جنة المعارف ، التي لا نهاية لفضاء شهودها ، التي أعدت للمتقين السّوى ، الذي يبذلون مهجهم وأموالهم في حال الجلال والجمال ، { والكاظمين الغيظ } حيث ملكوا أنفسهم وأحوالهم ، { والعافين عن الناس } لأن الصوفي ماله مباح ودمه هدر . وكان بعض الصوفية يقول : إذا أردت أن تعرف حال الفقير فأغضبه ، وانظر إلى ما يخرج منه . وقال شيخ شيوخنا رضي الله عنه : قطب التصوف : لا تغضب ولا تُغضب . هـ . ولعروة بن الزبير - رضي الله عنه : @ لن يبلغَ المجدَ أقوامٌ وإنْ كَرُمُوا ، حتى يُذَلّوا وإن عَزّوا لأقوام ويُشتَموا فتَرى الألوانَ مُشرِقةٌ ، لا عَفْوَ ذُلَّ ، ولكن عَفْوَ أحلام . @@ { والله يحب المحسنين } الذين حازوا مقام الإحسان ، فعبدوا الله بالشهود والعيان ، فعم إحسانهم ذا الإساءة والإحسان والإنس والجان . قال الحسن البصري : الإحسان : أن يعم إحسانه ، ولا يكون كالشمس والريح والمطر . أي : يخص بلداً دون بلد . وقال سفيان الثوري : ليس الإحسانُ أن تُحسنَ إلى من أحسن إليك ، وإنما الإحسان أن تحسن إلى مَن أساء إليك . فإن الإحسان إلى المحسن متاجرة كنفقد السوق ، خذ مني وهَات . وقال السري السقطي : الإحسان : أن تُحسن وقت الإمكان ، فليس في كل وقت يمكنك الإحسان ، وأنشدوا : @ ليس في كلَّ ساعةٍ وأوان تَتَهَيَّأ صنائعُ الإحسان فإذا أمْكَنَتْ فبادرْ إليها حذَراً من تعذُّر الإمْكَان @@ وقال الورتجبي : قوله : { وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة … } الخ ، علم الحق - سبحانه - عِلَلَ الخلق وميلهم إلى مُنى النفوس ، فدعاهم بطاعته إلى العلتين : المغفرة والجنة ، ودعا الخاصة إلى نفسه ، فقال : { ففرّوا إلى الله } ، ثم أعْلَم أن الكل في درك امتحان الجرم ، وأثبت بالآية ذنب الكل ، لأنهم وإن كانوا معصومين من الزلل ، فذنبهم قلة معرفتهم لأقدار الحق ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " لو أن الله عذب الملائكة لحق منه ، فقيل : إنهم معصومون ، فقال عليه الصلاة والسلام : من قلة معرفتهم بربهم " ولذلك دعاهم إلى المغفرة . هـ . قال في الحاشية : وقوله : أثبت بالآية ذنب الكل ، يعني : شمول قوله : { يغفر لمن يشاء } مَنْ في السماوات الصادق بالملائكة ، وإنما تكون المغفرة بعد ذنب ، ولكنه في كل أحد على حسبه ، وأما قوله : دعاهم إلى المغفرة ، فكأنه من قوله : { سارعوا إلى مغفرة من ربكم } ، وأن الخطاب يعم من في السماوات أيضاً ، وقد يتصور في حق الملائكة الاستنادُ لظواهر الأمور والاختلاف بينهم والاختصام ، مما هو معرض للخطأ ، وذلك من دواعي المغفرة ، وكذلك القصور عن معرفة كنه جلاله الله : نقصٌ لا يخلو منه مخلوق ، لاستحالة الإحاطة به علماً ، ولذلك كان الترقي في المعرفة لا حد له أبداً سرمداً . هـ .