Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 33-34)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : بأي أرض قال في المصباح : الأفصح : استعمال " أي " في الشرط والاستفهام بلفظ واحد ، للمذكر والمؤنث ، وعليه قوله تعالى : { فَأَيَّ آيَاتِ ٱللَّهِ تُنكِرُونَ } [ غافر : 81 ] ، وقد تطابق في التذكير والتأنيث ، نحو أَيُّ رَجُلٍ ، وأي وأية امرأة . وفي الشاذ : بأية أرض تموت . هـ . يقول الحق جل جلاله : { أيها الناس اتقوا ربكم } اجعلوا بينكم وبين غضبه وقاية ، بطاعته وترك معصيته . { واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده } شيئاً ، لا يقضى عنه شيئاً ، ولا يدفع عنه شيئاً . والأصل : لا يجزى فيه ، فحذف . { ولا مولودٌ هو جازٍ عن والده شيئاً } ، وتغيير النظم في حق الولد ، بأن أكده بالجملة الاسمية وبزيادة لفظ هو ، وبالتعبير بالمولود للدلالة على حَسْمِ أطماعهم في أن ينفعوا آبائهم الذين ماتوا على الكفر بالشفاعة في الآخرة . ومعنى التأكيد في لفظ المولود : أن الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الذي ولد منه لم تقبل منه ، فضلاً عن أن يشفع لأجداده ، لأن الولد يقع على الولد وولد الولد ، بخلاف المولود لأنه لِمَا وُلِدَ منك . كذا في الكشاف . قلت : وهذا في حق الكفار ، وأما المؤمنون فينفع الولد والده ، والوالد ولده بالشفاعة ، كما ورد في قارئ القرآن والعالمِ ، وكل من له جاه عند الله ، كما تقدم في سورة مريم . ثم قال تعالى : { إِنَّ وعدَ الله } بالبعث والحساب والجزاء ، { حقٌّ } لا يمكن خلفه ، { فلا تغرنكم الحياةُ الدنيا } بزخارفها الغرارة فإِنَّ نعمها دانية ، ولذاتها فانية ، فلا تشغلكم عن التأهب للقاء ، بالزهد فيها ، والتفرغ لِمَا يرضي الله ، من توحيده وطاعته ، { ولا يغُرُّنَّكم بالله } ، أي : لا يعرضنكم لخطر الغرة بالله وبحلمه ، أو : لا يوقعنكم في الجهل بالله والغرة به ، { الغرورُ } أي : الشيطان ، أو : الدنيا ، أو : الأمل . وفي الحديث : " الكيسَ من دَانَ نَفسَهُ وعَمِلَ لَمَا بَعْدَ المَوْتِ ، والأحمقُ من أَتْبَعَ نَفْسَهُ هَوَاهَا ، وتمنَّى عَلَى الله الأمَاني " وفي الحديث أيضاً : " كَفَى بخشية الله علماً ، وبالاغترار به جهلاً " . { إن الله عنده علمُ الساعة } أي : وقت قيامها ، فلا يعلمه غيره ، فتأهبوا لها ، قبل أن تأتيكم بغتة . { ويُنزل الغيث } : عطف على ما يقتضيه الظرف من الفعل ، أي : إن الله يُثبت عنده علم الساعة ، ويُنزل الغيث في وقته ، من غير تقديم ولا تأخير ، وفي محله ، على ما سبق في التقدير ، ويعلم كم قطرة ينزلها ، وفي أي بقعة يمطرها . { ويعلم ما في الأرحام } أذكر أم أنثى ، أتام أم ناقص ، وشقي أو سعيد ، وحسن أو قبيح . { وما تدري نفس ماذا تكْسِبُ غداً } من خير أو شر ، ووفاق وشقاق ، فربما كان عازمة على الخير فعملت شراً ، أو على شر فعملت خيراً . { وما تدري نفس بأي أرضٍ تموتُ } أي : أين تموت ، فربما أقامت بأرض ، وضربت أوتادها ، وقالت : لا أبرحُها ، فترمي بها مرامي القدر حتى تموت بمكان لم يخطر ببالها . رُوي أن ملك الموت مرَّ على سليمان عليه السلام فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه ، فقال الرجل : مَن هذا ؟ فقال : ملك الموت ، فقال : كأنه يُريدني ، فسأل سليمانَ أن يحمله الريح ويلقيه ببلاد لهند ، ففعل ، ثم قال ملك الموت لسليمان : كان دوام نظري إليه تعجباً منه ، لأني أُمرت أن أقبض روحه بالهند ، وهو عندك . هـ . وجعل العلم لله والدرايةَ للعبد ، لِمَا في الدراية من معنى التكسب والحيلة ، فهذه الأمور الخمسة قد اختص الله بعلمها . وأما المنجم الذي يُخبر بوقت الغيث والموت فإنه يقول بالقياس والنظر في المطالع ، وما يُدرَك بالدليل لا يكون غيباً ، على أنه مجرد الظن ، والظن غير العلم . وعن ابن عباس : من ادعى علم هذه الخمسة فقد كذب . وجاءه يهودي منجم ، فقال : إن شئت أنبأتك أنه يحم ابنك ويموت بعد عشرة أيام ، وأنت لا تموت حتى تعمى ، وأنا لا يحول عليّ الحول حتى أموت . قال له : أين موتك ؟ قال : لا أدري ، فقال ابن عباس : صدق الله : { وما تدري نفس بأي أرض تموت } . ورأى المنصورُ في منامه ملك الموت ، وسأله عن مدة عمره ، فأشار بأصابعه الخمس ، فعبرها المعبرون بخمس سنين ، وبخمسة أشهر وبخمسة أيام . فقال أبو حنيفة رضي الله عنه : هو إشارة إلى هذه الآية ، فإن هذه العلوم الخمسة لا يعلمها إلا الله . هـ . وقال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي في حاشيته : قيل : إن الله تعالى يعلم الأشياء بالوَسم والرسم ، والرسم يتغير ، والوسم لا يتغير ، فقد أخفى الله تعالى الساعة ، ولم يخف أمارتها ، كما جاء عن صاحب الشرع . وكذا قد يطلع أولياءه على بعض غيبه ، ولكن لا من كل وجوهه ، فقد يعلم نزول المطر من غير تعين وقته واللحظة التي ينزل فيها ومقداره ، وبالجملة فعلمُ ما يكون من الخواص ، جُملة لا تفصيلي ، وجزئي لا كُلي ، ومقيد لا مطلق ، وعرضي لا ذاتي ، بخلاف علمه تعالى . هـ . قال المحلي : روى البخاري عن ابن عمر حديث مفاتح الغيب الخمس : { إن الله عنده علم الساعة … } إلى آخر السورة … ونقل ابن حجر عن ابن أبي جمرة ، بعد كلام ، ما نصه : والحكمة في جعلها خمسة : الإشارة إلى حصر العوالم فيها ، ففي قوله : { ما تغيض الأرحام } : الإشارة إلى ما يزيد في الإنسان وما ينقص . وخص الرحم بالذكر ، لكون الأكثر يعرفونها بالعادة ، ومع ذلك فنفى أن يعرفها أحد بحقيقتها ، فغيرها بطريق الأولى . وفي قوله : لا يعلم متى يأتي المطر : إشارة إلى أمور العالم العلوي ، وخص المطر مع أن له أسباباً قد تدل على وقوعه ، لكنه من غير تحقيق . وفي قوله : " لا تدري نفس بأي أرض تموت " : إشارة إلى أمور العالم السفلي ، مع أن عادة أكثر الناس أن يموت ببلده ، ولكن ليس ذلك حقيقة ، وإن مات ببلده لا يعلم بأي بقعة يُدفن فيها ، ولو كان هناك مقبرة لأسلافه ، بل قبر أعده هو له . وفي قوله : " ولا يعلم ما في غد إلا الله " : إشارة إلى أنواع الزمان ، وما فيها من الحوادث ، وعبَّر بلفظ غدٍ لكون حقيقته أقربَ الأزمنة إليه ، وإذا كان مع قربه لا يعلم حقيقة ما يقع فيه ، مع إمكان الأمارة والعلامة ، فما بعدُ عنه أولى . وفي قوله : " متى تقوم الساعة إلا الله " إشارة إلى علوم الآخرة ، فإن يوم القيامة أولها ، وإذا انتفى علم الأقرب انتقى علم ما بعدُ ، فجمعت الآية أنواع الغيوب ، وأزالت جميع الدعاوى الفاسدة . وقد بيّن في قوله تعالى ، في الآية الأخرى ، وهي قوله : { فَلاَ يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِ أَحَداً إِلاَّ مَنِ ٱرْتَضَىٰ } [ الجن : 26 ، 27 ] الآية ، أن الإطلاع على شيء من هذه الأمور لا يكون إلا بتوقيف . هـ ملخصاً . والحاصل : أن العوالم التي اختص الله بها خمسة : عالم القيامة وما يقع فيه ، والعالم العلوي وما ينشأ منه ، وعالم الأرض وما يقع فيه ، وعالم الإنسان وما يجري عليه ، وعالم الزمان وما يقع فيه . { إن الله عليم خبير } عليم بالغيوب ، خبير بما كان وبما يكون . وعن الزهري : أَكْثِرُوا من قراءة سورة لقمان فإن فيها أعاجيب هـ . الإشارة : يا أيها الناس المتوجهون إلى الله ، إنَّ وَعْدَ الله بالفتح ، لمن أنهض همته إليه ، حق ، فلا تغرنكم الحياة الدنيا بأشغالها ، عن النهوض إليها ، ولا يغرنكم بكرم الله الشيطانُ الغرور ، فيغركم بكرم الله ، ويصرفكم عن المجاهدة والمكابدة إذ لا طريق إلى الوصول إلا منهما ، إن الله عنده علم الساعة التي يفتح عليها العبد فيها ، وينزل غيث المواهب والواردات ، ويعلم ما في أرحام الإرادة ، من تربية المعرفة واليقين ، وما تدري نفس ماذا تكسب غداً من زيادة الإيمان ونقصانه ، وما تلقاه من المقادير الغيبية ، فيجب عليها التفويض والاستسلام ، وانتظار ما يفعل الله بها في كل غد ، وما تدري نفس بأي أرض من العبودية تموت فيها ، إن الله عليم خبير . قال القشيري : في قوله : { يا أيها الناس اتقوا ربكم } : خوّفهم ، تارةً ، بأفعاله ، فيقول : { اتقوا الله } [ البقرة : 48 وغيرها ] ، وتارة بصفاته ، فيقول : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ ٱللَّهَ يَرَىٰ } [ العلق : 14 ] ، وتارة بذاته ، فيقول : { وَيُحِذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ } [ آل عمرآن : 28 ] . هـ . وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلى الله على سيدنا محمد وآله .