Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 34, Ayat: 14-14)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فلما قَضَيْنَا عليه } على سليمان { الموتَ ما دلّهم } أي : الجن وآل داود { على موته إِلا دابةُ الأرض } أي : الأرضة ، وهي دويبة تأكل الخشب ، ويقال : لها ، سُرْفةَ والقادح . والأرض هنا مصدر : أرَضَتِ الخشبة ، بالبناء للمفعول ، أرَضَّا : أكلتها الأرضة . فأضيفت إلى فعلها وهو الأرض ، أي : الأكل . { تأكل مِنْسَأَتَهُ } أي : عصاه ، سميت منسأة لأنها تنسى ، أي : تطرح ويُرْمى بها . وفيها لغتان الهمز وعدمه ، فقرأ نافع وأبو عمرو بترك الهمز ، وعليه قول الشاعر : @ إِذا دَبَبْتُ على المِنسَاةِ مِن كِبَرٍ فَقَد تَبَاعَدَ عَنْكَ اللهْوُ والغَزلُ @@ وقرأ غيرهما بالهمز ، وهو أشهر . { فلما خرّ } سقط سليمانُ { تبينتِ الجنُّ } أي : تحققت وعلمت علماً يقيناً ، بعد التباس الأمر على عامتهم وضعفتهم ، { أن لو كانوا يعلمون الغيبَ ما لبثوا } بعد موت سليمان { في العذاب المهين } في العمل الشاق له ، لظنهم حياته ، فلو كانوا يعلمون الغيب كما زعموا لعلموا موته . وذلك أن داود عليه السلام أسس بيت المقدس ، في موضع فسطاط مُوسى عليه السلام ، فمات قبل أن يتمه ، فوصّى به إلى سليمان ، فأمر الشياطين بإتمامه . فلما بقي من عمره سنة ، سأل الله تعالى أن يعمّي عليهم موته حتى يفرغوا ، ولتبطل دعواهم علم الغيب . وكان عمر سليمان ثلاثاً وخمسين سنة . وملك وهو ابنُ ثلاث عشرة سنة . فبقي في ملكه أربعين سنة ، وابتدأ بناء بيت المقدس لأربع مضين من ملكه . قال الثعلبي : فبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمَّره بأساطين المها الصافي ، وسقفه بأنواع الجواهر ، وفضض سقوفه وحيطانه باللآلىء ، وسائر أنواع الجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج ، فلم يكن في الأرض أبهى ولا أنور من ذلك المسجد . كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر . ومن أعاجيب ما اتخذ في بيت القدس ، أن بنى بيتاً وطيّن حائطه بالخضرة ، وصقله ، فإذا دخله الوَرعُ البار استبان فيه خياله أبيض ، وإذا دخله الفاجر استبان فيه خياله أسود ، فارتدع كثير من الناس عن الفجور . قال صلى الله عليه وسلم : " لما فرغ سليمانُ من بناء بيت المقدس سأل ربه ثلاثاً ، فأعطاه اثنتين ، وأن أرجو أن يكون قد أعطاه الثالثة ، سأله حُكماً يُصادفُ حُكْمَه ، فأعطاه إياه ، وسأله مُلكاً لا ينبغي لأحد من بعده ، فأعطاه إياه ، وسأله ألا يأتي أحد هذا البيت يُصلي فيه ركعتين إلا خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ، وأنا أرجو أن يكون قد أعطاه ذلك " هـ . فلم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان عليه السلام حتى خرّبه بخت نصر ، وأخذ ما كان فيه من الذهب والفضة واليواقيت ، وحمله إلى دار مملكته من العراق . ثم قال : قال المفسرون : كان سليمان ينفرد في بيت المقدس السنة والسنتين ، والشهر والشهرين ، يدخل فيه طعامه وشرابه ، فدخله في المرة التي مات فيها . وكان بدء ذلك أنه لم يكن يوم يصبح فيه إلا نبتت في بيت المقدس شجرة ، فيسألها : ما اسمك ؟ فتقول الشجرة : اسمي كذا ، فيأمر بها فنقطع ، فإن كانت لغرس غرسها ، وإن كانت لدواء كُتبت . فبينما هو يصلي ذات يوم إذ رأى شجرة بين يديه ، فقال لها : ما اسمك ؟ قالت : الخروبة ، قال لها : ولأي شيء نَبَتِّ ؟ قالت : لخراب هذا المسجد ، فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ ، أنت التي على وجهك هلاكي ، وهلاك بيت المقدس ، فنزعها وغرسها في حائط ، ثم قال : اللهم أعم عن الجن موتي ، حتى يعلم الإنسُ أن الجن لا يعلمون الغيب . وكانت الجن تُخبر الإنس أنهم يعلمون أشياء من علم الغيب ، ثم دخل المحراب ، وقام يصلي على عصاه ، فمات . وقيل : إن سليمان قال لأصحابه ذات يوم : قد آتاني الله ما ترون ، وما مرّ عليَّ يوم في ملكي بحيث صفا لي من الكدر ، وقد أحببتُ أن يكون لي يوم واحد يصفو لي من الكدر ، فدخل قصره من الغد ، وأمر بغلق أبوابه ، ومنع الناس من الدخول عليه ، ورفْعِ الأخبار إليه . ثم اتكأ على عصاه ينظر في ممالكه ، إذ نظر إلى شاب حسن الوجه ، عليه ثياب بيض ، قد خرج عليه من جوانب قصره ، فقال : السلام عليك يا سليمان ، فقال : عليك السلام ، كيف دخلت قصري ؟ فقال : أنا الذي لا يحجبني حاجب ، ولا يدفعني بوّاب ، ولا أهاب الملوك ، ولا أقبل الرشا ، وما كنتُ لأدخل هذا القصر من غير إذن . فقال سليمان : فمَن أَذِنَ لك في دخوله ؟ قال : ربه ، فارتعد سليمان ، وعَلِمَ أنه ملك الموت ، فقال : يا ملك الموت هذا اليوم الذي أردتُ أن يصفو لي ، قال : يا سليمان ذلك اليوم لم يخلق في أيام الدنيا ، فقبض روحه وهو متكىء على عصاه . هـ . وفي رواية : أنه دعا الشياطين ، فبنوا له صرحاً من قوارير ، ليس له باب ، فقام يُصلي ، واتكأ على عصاه ، فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه . والله تعالى أعلم أيّ ذلك كان . وبقي سليمان ميتاً ، وهو قائم على عصاه سنة ، حتى أكلت الأَرَضةَ عصاه . ولم يعلموا منذ كم مات ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت منها يوماً وليلة ، ثم حسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة . سبحان الحي الذي لا يموت ، ولا ينقضي ملكه . الإشارة : كل دولة في الدنيا تحول ، وكل عز فيها عن قريب يزول ، فالعاقل مَن صرف دولته في طاعة مولاه ، وبذل جهده في محبته ورضاه ، فإن كانت قسمته في الأغنياء كان من الشاكرين ، وإن كانت في الفقراء كان من الصابرين ، والفقير الصابر أحظى من الغني الشاكر ، ولذلك ورد أن سليمان عليه السلام آخر مَن يدخل الجنة من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وعبد الرحمن بن عوف آخر مَن يدخلها من الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين . والغني الشاكر هو الذي يُعطي ولا يُبالي ، ويتواضع للكبير والصغير ، والوجيه والحقير ، والفقير الصابر هو الذي يغتبط بفقره ، ويكتمه عن غيره . وبالله التوفيق . ثم ذكر حال من لم يشكر النعم فقال : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ … }