Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 36, Ayat: 77-83)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { أَوَلَمْ يَرَ الإِنسانُ أَنَّا خَلقناه من نُطفةٍ } مَذِرة ، خارجة من الإحليل ، الذي هو قناة النجاسة ، { فإِذا هو خَصِيم مبين } بيّن الخصومة ، أي : فهو على مهانة أصله ، ودناءة أوله ، يتصدّى لمخاصمة ربه ، ويُنكر قدرته على إحياء الميت بعدما رمّت عظامه . وهي تسلية ثانية له صلى الله عليه وسلم ، وتهوين ما يقولونه في جانب الحشر ، وهو توبيخ بليغ حيث عجّب منه ، وجعله إفراطاً في الخصومة بيّناً فيها . رُوي أن أَبيّ بن خلف أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم بالٍ ، ففتَّه بيده ، وقال : يا محمد أتُرى الله يحيي هذا بعدما رمّ ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " نعم ويبعثك ويدخلك جهنم " فنزلت الآية . { وضَرَبَ لنا مثلاً } أمراً عجيباً ، بأن جَعَلنا مثل الخلق العاجزين ، فنعجز عما عجزوا عنه من إحياء الموتى ، { ونَسِيَ خَلْقَه } من المنيّ المهين ، فهو أغرب من إحياء العظم الرميم . و " خلقه " : مصدر مضاف للمفعول ، أي : خلقنا إياه ، { قال مَن يحيي العظامَ وهي رميمٌ } بالٍ مفتت ، وهو اسم لما بَلِيَ من العظام ، لا صفة ، ولذلك لم يؤنّث . وقد وقع خبراً لمؤنث ، وقيل : صفة بمعنى مفعول ، من : رممته ، فيكون كقتيل وجريح . وفيه دليل على أن العظم تحله الحياة ، فإذا مات صار نجساً ، وهو مذهب مالك والشافعي ، وقال أبو حنيفة : لا تحلّه الحياة ، فهو طاهر كالشعر والعصب . { قُل يُحْييها الذي أنشأها } خلقها { أولَ مرة } أي : ابتداء ، { وهو بكل خَلْقٍ } مخلوق { عليمٌ } لا يخفى عليه أجزاؤه ، وإن تفرقت في البر أو البحر ، فيجمعه ، ويُعيده كما كان . ثم ذكر برهان إحيائه الموتى بقوله : { الذي جعل لكم من الشَّجَرِ الأخضر } كالمَرْخ والعَفَار ، { ناراً فإِذا أنتم منه تُوقِدُون } تقدحون ، ولا تشكون أنها نار خرجت منه ، فمَن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر ، مع ما فيه من المائية ، المضادة للنار ، كان أقدر على إيجاد الحياة والغضاضة فيما غضا ويبس ، وهي الزناد عند العرب ، وأكثرها من المَرْخ والعَفار ، وفي أمثالهم : " في كلّ شجر نار ، واستمجد المرخُ والعفار " أي : استكثر في هذين الصنفين . وكان الرجل يقطع منهما غصنين مثل السوَاكين ، وهما خضراوان ، يقطر منهما الماء ، فيسحق المرخ وهو ذكر على العفار وهي أنثى فينقدح النار بإذن الله تعالى . وعن ابن عباس رضي الله عنه : ليس من الشجر شجرة إلا وفيها نار ، إلا العناب لمصلحة الدقّ للثياب . والمرخُ ككتف : شجر سريع الورى . قاله في الصحاح . وهو المسمى عندنا بالكُلخ . وفي القاموس : عَفار كسحاب : شجر يتخذ منه الزناد . قال ابن عطية : النار موجودة في كل عود ، غير أنها في المتحلحَل ، المفتوح المسام ، أوجد ، وكذلك هو المَرْخ والعَفار . هـ . { أَوَليس الذي خلق السماواتِ والأرضَ } مع كبر جرمهما ، وعظم شأنهما { بقادرٍ على أن يَخْلُقَ مِثْلَهم } مثل أجسامهم في الصِّغر والحقارة ، بالإضافة إلى السموات والأرض ، أو : أن يعيدهم مثل ما كانوا عليه في الذات والصفات لأن المعاد مثل المبْدأ ، بل أسهل ، { بَلى } أي : قُل : بَلى هو قادر على ذلك ، { وهو الخلاَّقُ } كثير الخلق والاختراع ، { العليمُ } بأحوال خلقه ، أو : كثير المخلوقات والمعلومات . { إِنما أمْرُهُ } شأنه { إِذا أراد شيئاً } بكونه { أن يقولَ له كُن فيكون } فيحدث ، أي : فهو كائن موجود ، لا محالة . وهو تمثيل لتأثير قدرته في الأشياء ، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور ، من غير امتناع وتوقف ، من غير أن يحتاج إلى كاف ولا نون ، وإنما هو بيان لسرعة الإيجاد ، كأنه يقول : كما لا يثقل عليكم قول " كن " ، فكذلك لا يصعب على الله إنشاؤكم وإعادتكم . قال الكواشي : ثم أومأ إلى كيفية خلقه الأشياء المختلفة في الزمان المتحد ، وذلك ممتنع على غيره ، فقال : { إِنما أمره … } الآية ، فيحدث من غير توقف ، فمَن رفع " فيكونُ " ، فلأنه جملة من مبتدأ وخبر ، أي : فهو يكون . ومَن نصب فللعطف على " يقول " . والمعنى : أنه ليس ممن يلحقه نصَب ولا مشقة ، ولا يتعاظمه أمر ، بل إيجاد المعدومات ، وإعدام الموجودات ، عليه أسرع من لمح البصر هـ . { فسبحان } تنزيهاً له مما وصفه به المشركون ، وتعجيب مما قالوا ، { الذي بيده ملكوتُ } أي : ملك { كُلِّ شيءٍ } والتصرُّف فيه على الإطلاق . وزيادة الواو والتاء للمبالغة ، أي : مالك كلّ شيء ، { وإِليه تُرجَعُون } بالبعث للجزاء والحساب . الإشارة : أَوَلَمْ ير الإنسان أنَّا خلقناه من نطفة مهينة ، فإذا هو خصيم لنا في تدبيرنا واختيارنا ، ويُنازعنا في مُرادنا من خلقنا ، ومرادنا منهم : ما هم عليه . فاستحي أيها الإنسان أن تُخاصم الله في حكمه ، أو تنازعه في تقديره وتدبيره ، وسلِّم الأمور لمَن بيده الخلق والأمر . بكى بعضُ الصالحين أربعين سنة على ذنب أذنبه . قيل له : وما هو ؟ قال : قلت لشيء كان : ليته لم يكن . فارْضَ بما يختاره الحق لك ، جلاليًّا كان أو جماليًّا ولا تختر من أمرك شيئاً ، والله يعلم وأنتم لا تعلمون . وكل مَن اهتم بأمر نفسه ، واشتغل بتدبير شؤونها ، فقد ضرب لله مثلاً ، بأن أشرك نفسه معه ، ونَسِي خلقه ، ولو فكر في ضعف أصله ، وحاله ، لاستحيا أن يُدبِّر لنفسه مع ربه ، وفي الإشارات عن الله تعالى : أيها العبد لو أَذِنْتُ لك أن تدبر لنفسك لكنت تستحيي مني أن تدبر لها ، فكيف وقد نهيتك عن الندية ! . وكما قَدَرَ على إحياء العظام الرميمة ، يَقْدر على إحياء القلوب الميتة ، ومَن قَدَرَ على استخراج النار من محل الماء ، يقدر على استخراج العلم من الجهل ، واليقظة من الغفلة ، ومَن كان أمره بين الكاف والنون ، بل أسرع من لحظ العيون ، ينبغي أن يُرجع إليه في جميع الشؤون . قال القشيري : فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء ، فلا يحدث شيء قلَّ أو كثر إلا بإبداعه وإنشائه ، ولا يبقى منها شيء إلا بإبقائه ، فمنه ظهر ما يحدث ، وإليه يصير ما يخلق . هـ . قال النسفي : قال صلى الله عليه وسلم : " مَن قرأ يس يريد بها وجه الله غفر اللهُ له ، وأُعطي من الأجر كمَن قرأ القرآن اثنتين وعشرين مرة " وبالله التوفيق ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وصلّى الله على سيدنا ومولانا محمد ، وآله وصحبه ، وسلَم .