Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 39, Ayat: 5-6)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { خلق السماواتِ والأرضَ } أي : وما بينهما من الموجودات ، ملتبسة { بالحق } مشتملة على الحكم والمصالح الدينية والدنيوية { يُكوِّر الليلَ على النهار ويُكوِّر النهارَ على الليل } ، التكوير : اللّف والليّ ، يقال : كار العمامة على رأسه وكوّرها . والمعنى : أن كل واحد منهما يغيّب الآخر إذا طرأ عليه ، ويلفه لف اللباس باللابس ، أو : يغيّبه كما يغيب الملفوف باللفافة ، أو : يجعله كاراً عليه كرُوراً متتابعاً ، تتابع أكوار العمامة ، وهذا بيان لكيفية تصرفه تعالى في السموات والأرض بعد بيان خلقهما ، وعبّر بالمضارع للدلالة على التجرُّد . { وسخَّر الشمسَ والقمرَ } : جعلهما منقادين لأمره . { كُلٌّ يجري لأَجَلٍ مُسمًّى } ، وهو يوم القيامة ، أو : كل منهما يجري لمنتهى دورته ، { أَلاَ هو العزيزُ } الغالب القادر على كل شيء ، ومن جملتها : عقاب العصاة ، { الغفارُ } : المبالغ في المغفرة ، ولذلك لا يُعاجل بالعقوبة ، ولا يمنع ما في هذه الصنائع البديعة من آثار رحمته . وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، لإظهار كمال الاعتناء بمضمونها . { خَلَقَكُم من نفسٍ واحدةٍ } ، لَمَّا ذكر ما يتعلق بالعالم العلوي ، ذكر ما يتعلق بالعالم السفلي ، وترك العاطف للإيذان باستقلاله في الدلالة على الوحدانية ، وبدأ بالإنسان لأنه المقصود الأهم من هذا العالم ، ولعَرَاقته في الدلالة على توحيد الحق وباهر قدرته لما فيه من تعاجيب آثار القدرة ، وأسرار الحكمة ، وأصالته في المعرفة فإن الإنسان بحال نفسه أعرف ، والمراد بالنفس : نفس آدم عليه السلام . { ثم جعل منها زوجَهَا } : عطف على محذوف ، صفة لنفس ، أي : من نفسٍ خلقها ثم جعل منها زوجها ، أو : على معنى : واحدة ، أي : نفس وُجدت ثم جعل منها زوجها حواء ، وعطفت بثم دلالة على مباينتها له فضلاً ومزية ، فهو من التراخي في الحال والمنزلة ، مع التراخي في الزمان . وقيل : أخرج ذرية آدم من ظهره كالذّر ، ثم أخرج منه حوّاء ، ففيه ثلاث آيات خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من قصيراه ، ثم تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما . { وأنزل لكم من الأنعامِ } أي : قضى وجعل ، أو : خلقها في الجنة مع آدم عليه السلام ، ثم أنزلها ، أو : أحدث لكم بأسباب نازلة من السماء ، كالأمطار ، وأشعة الكواكب ، كما تقول الفلاسفة . { ثمانيةَ أزواج } ذكراً وأنثى ، وهي : الإبل ، والبقر ، والضأن ، والمعز . فالزوج اسم لواحد معه آخر ، فإذا انفرد فهو فرد ، ووتر . { يخلقُكم في بطونِ أمهاتِكم } : استئناف لبيان كيفية خلقهم ، وأطوارهم المختلفة ، الدالة على القدرة القاهرة . وصيغة المضارع للدلالة على التجرُّد . { خلقاً من بعد خلق } : مصدر مؤكد ، أي : يخلقكم فيها خلقاً كائناً من بعد خلق ، أي : خلقاً مُدرَّجاً ، حيواناً سويّاً ، من بعد عظام مكسوة لحماً ، من بعد عظام عارية ، من بعد مضغة مخلَّقة ، من بعد مضغة غير مخلَّقة ، من بعد علقة ، من بعد نطفة ، { في ظلمات ثلاث } : ظلم البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، أو : ظلمة الصلب ، والبطن ، والرحم . { ذلكم } : إشارة إلى الحق تعالى ، باعتبار أفعاله المذكورة ، وهو مبتدأ ، وما فيه من معنى البُعد للإيذان ببُعد منزلته في العظمة والكبرياء ، أي : ذلكم العظيم الشأن ، الذي عددت أفعاله هو { اللهُ ربكُم } أي : مربيكم بنعمة الإيجاد على الأطوار المتقدمة ، وبنعمة الإمداد بعد نفخ الروح فيه . { له الملكُ } : التصرف التام على الإطلاق في الدارين . { لا إله إِلا هو } : لا متصرف غيره . { فأنى تُصْرَفُون } : فكيف تصرفون عن عادته تعالى ، مع وفور دواعيها ، وانتفاء الصارف عنها بالكلية ، إلى عبادة غيره ، من غير داع إليها ، مع كثرة الصوارف عنها ؟ والله تعالى أعلم . الإشارة : خلق سماوات الأرواح ، وأرض النفوس ، بالحق ، أي : لسبب معرفته ، وعبادته ، فالمعرفة للأرواح ، والعبادة للنفوس ، يُكوّر نهار البسط على ليل القبض ، وبالعكس ، وسخَّر شمس العيان ، وقمر البرهان ، كُلٌّ يجري إلى أَجل مسمى ، إلا أن قمر البرهان ينتهي بطلوع شمس العيان ، وشمس العيان لا انتهاء لها . { لا إله إلا هو العزيز } فيمنع بعزته من الوصول إليه مَن أراد احتجابه ، { الغفار } فيغطي بفضله مساوىء مَن أراد وصلتَه . { خلقكم من نفس واحدة } من روح واحدة ، هي الروح الأعظم ، ثم تفرّعت منها الأشياء كلها . وأنزل لكم من الأنعام ما تتصرفون فيه ، وتتقربون به إلى ربكم ، ثم ذكَّرهم بنعمة الإيجاد ، ونعمة الإمداد ، بقوله : { يخلقكم في بطون أمهاتكم … } إلخ ، فنعمة الإيجاد ظاهرة ، ونعمة الإمداد : ما يتغذّى به الجنين في بطن أمه من دم الحيض . ثم أمرهم بالشكر عليها ، فقال : { إِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنكُمْ } .