Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 105-109)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : أرى ، هنا عرفانية ، لا علمية . فلذلك لم تتعد إلى ثلاثة . يقول الحقّ جلّ جلاله : لنبيّه عليه الصلاة والسلام حين همَّ أن يخاصم عن طُعمَة بن أبَيرِق ، وذلك أنه سرق درعًا من جاره قتادة بن النعمان ، في جراب دقيق ، فجعل الدقيق يسقط من خرق فيه ، وخبَّأها عند يهودي ، فالتمس الدرع عند طعمة ، فلم توجد ، وحلف ما أخذها ، وما له بها علم ، فتركوه واتبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها ، فقال اليهودوي : دَفَعَهَا إليَّ طُعمَة ، وشهد له ناس ، من اليهود ، فقال رهط طعمة من بني ظفر : انطلقوا بنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنسأله أن يجادل عن صاحبنا ، وقالوا : إن لم يفعل هلك وأفتضح ، وبرىء اليهودي ، فهمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتماداً على ظاهر الأمر ، ولم يكن له علم بالواقعة ، فنزلت الآية : { إنا أنزلنا إليكم الكتاب بالحق } أي : ملتبسًا بالحق { لتحكم } بما فيه من الحق { بين الناس } بسبب ما { أراك } أي : عَرَّفك { الله } بالوحي ، أو بالاجتهاد ، ففيه دليل على إثبات القياس ، وبه قال الجمهور . وفي اجتهاد الأنبياء خلاف . { ولا تكن للخائنين خصيمًا } أي : عنهم للبرآء ، أو لأجلِهم والذَّبَّ عنهم . { واستغفر الله } مما هممت به ، { إن الله كان غفورًا رحيمًا } ، وفيه دليل على منع الوكالة عن الذمي ، وبه قال ابن شعبان . وقال ابن عات : لعله أراد الندب . وقال مالك بن دينار : كفى بالمرء خيانة أن يكون أمينًا للخونة . والوكالة من الأمانة ، والمصطفى عليه الصلاة والسلام لم يقصد شيئًا من ذلك ، ولا علم له بالواقعة ، لولا أطلعَه تعالى ، فلا نقص في اهتمامه ، ولا درك يلحقه . وبالجملة ، فالآية خرجت مخرج التعريف بحقيقة الأمر في النازلة . ثم نهاه عن الذبّ عنهم ، فقال : { ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم } وهم رهط بن أبيرق السارق ، قال السهيلي : هم بِشر وبشير ومُبشر وأُسَير ، { إن الله لا يحب مَن كان خوّانًا } أي : كثير الخيانة ، { أثيمًا } أي : مصرًا عليها ، رُوِي أن طعمة هرب إلى مكة ، وارتدَّ ، ونَقَبَ حائطًا بها ليسرق أهله ، فسقط الحائط عليه فقتله ، ويستفاد من الآية امتناع الجدال عمن عُلِمَت خيانتُه بالأحرى ، أو كان مظنة الخيانة ، كالكافر ونحوه . وكذا قال ابن العربي في أحكام القرآن في هذه الآية : إن النيابة عن المبطل المتهم في الخصومة لا تجوز ، بدليل الآية . هـ . ثم فَضحَ سرهم ، فقال : { يستخفون من الناس } أي : يستترون منهم ، { ولا يستخفون من الله } وهو أحق أن يستحيا منه ويُخاف { وهو معهم } لا يخفى عليه شيء ، فلا طرق للنجاة إلا تَركُ ما يستُقبح ، ويؤاخذ عليه سرًا وجهرًا . { إذ يُبيتون } أي : يدبرون ويُزَوِّرُون { ما لا يرضى من القول } من رمي البريء ، والحلف الكاذب ، وشهادة الزور ، { وكان الله بما يعملون محيطًا } لا يفوته شيء ، { ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا } ودفعتم عنهم المعرة ، { فَمن يجادل الله عنهم } أي : مَن يُدافُع عنهم عذابه { يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلاً } يحميهم من عقاب الله ، حين تُفضَح السرائر ، ولا تنفع الأصحاب ولا العشائر . الإشارة : في الآية عتاب للقضاة والولاة إذا ظهرت صورة الحق بأمارات وقرائن ، ثم تجمدوا على ظاهر الشريعة ، حمية أو رشوة ، فإن القضاء جُلّة فِراسة ، وفيها عتاب لشيوخ التربية ، إذا ظهر لهم عيب في المريد ستروه عليه حيَاء أو شفقة ، ولذلك قالوا : شيخ التربية لا تليق به الشفقة ، غير أنه لا يُعيَّن ، بل يذكر في الجملة ، وصاحب العيب يفهم نفسه ، وفيها عتاب للفقراء إذا راقبوا الناس ، وأظهروا لهم ما يُحبون ، وأخفوا عنهم ما لا يرضون ، لقوله سبحانه ـ : { يستخفون من الناس … } الآية ، بل ينبغي أن يكونوا بالعكس من هذا ، قال بعضهم : إن الذين تكرهون مني ، هو الذي يشتهيه قلبي . والله تعالى أعلم .