Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 163-165)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : من قرأ { زبورًا } بالفتح ، فالمراد به كتاب الزبور ، ومن قرأ بالضم ، فجمع " زِبر " بكسر الزاي وسكون الباء بمعنى مزبورًا ، أي : مكتوبًا ، أي آتينا داود كتبًا متعددة ، و { رسلاً } : منصوب بمحذوف دل عليه ، { أوحينا } ، أي : أرسلنا رسلاً ، أو يفسره ما بعده ، أي : قصصنا عليك رسلاً ، و { رسلاً مبشرين } : منصوب على البدل ، أو على المدح ، أو بإضمار أرسلنا ، أو على الحال الموطئة لما بعده ، كقولك : مررت بزيد رجلاً صالحًا . يقول الحقّ جلّ جلاله : { إنا أوحينا إليك } يا محمد { كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده } ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة ، كما سألك أهل الكتاب تعنيتًا ، بل كان ينزل عليهم الوحي شيئًا فشيئًا ، فأمرك كأمرهم . وقدَّم نوحًا عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم ، وأول نبي من أنبياء الشريعة ، وأول نذير على الشرك وأول رسول عُذبت أمته بدعوته ، وأطول الأنبياء عُمرًا ، وجُعلت معجزته في نفسه ، فإنه عمَّر ألف سنة ، ولم تنقص له سن ، ولم تنقص له قوه ، ولم تشب له شعرة ، ولم يبالغ أحد في تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السلام ، ولم يصبر أحدٌ على أذى قومه ما صبر هو ، كان يُشتم ويُضرب حتى يغمى عليه . ثم قال تعالى : { وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط } أي : الأحفاد ، وهم أنبياء بني إسرائيل ، { وعيسى وأيوب وهارون وسليمان } ، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيمًا لهم ، فإن إبراهيم أولُ أُولي العزم منهم ، وآخرهم عيسى عليه السلام ، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم ، { وآتينا داود زبورًا } أي : كتاب الزبور ، أو زُبورًا أي : صحفًا متعددة ، وأرسلنا { رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل } أي : من قبل هذه السورة ، أو قبل هذا اليوم ، { ورسلاً لم نقصصهم عليك } ، وفي الحديث : " عددُهم ثلاثمائة وأربعة عشر " ، { وكلم الله موسى تكليمًا } حقيقيًا ، خُصَّ به من بين الأنبياء ، وزاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية مع الكلام . قال الورتجبي : بادر موسى عليه السلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية ، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه ، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفًا ، وتحمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره ، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرًا بالانبساط ، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته ، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب . قال تعالى : { فَأَوْحَى إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ } [ النجم : 10 ، 11 ] . هـ . وقال ابن عطية : كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد ، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات ، فكذلك كلامه لا كالكلام . هـ . ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال : أرسلنا { رسُلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد } بعث { الرسل } فيقولون : لولا أرسلت إلينا رسولاً ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك ، فقطع عذر العباد ببعث الرسل ، وقامت الحجة عليهم ، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام ـ : " مَا أحدٌ أغيرَ مِنَ الله ، ولذلكَ حرَّم الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنهَا وما بَطَنَ ، وما أحدٌ أحبَّ إليهِ المدحُ من الله ، ولذلكَ مدَحَ نفسَهُ ، وما أحَدٌ أحبَّ إليهِ العذرُ مِنَ الله تعالى ، ولذلِكَ أرسَلَ الرَّسلِ وأنزَلَ الكُتبَ " . { وكان الله عزيزًا } لا يغلب ، فلا يجب عليه شيء ، { حكيمًا } فيما دبر من النبوة ، وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز على ما يليق به في زمانه . والله تعالى أعلم . الإشارة : علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل ، العارفون منهم كالرسل منهم ، قال ابن الفارض رضي الله عنه : @ فَعَالِمُنَا منهم نبي ، ومَن دَعَا إلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ من أولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه @@ فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام ، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة ، فيسمعون من الحق كما ينطقون به . كما قال الششتري : @ أنَا باللهِ أنطقُ ومِنَ الله أسمَع @@ فتارة يسمعون كلامه بالوسائط ، وتارة من غير الوسائط ، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق ، وشأن من لم يَبلُغ مقامهم : التسليم . @ إن لم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلَّم لأُناسٍ رَأوه بالأبصَارِ @@ وفي الورتجبي : وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه ، فيسمع به كلامه ، كما حكى عليه الصلاة والسلام عنه تعالى ـ ، قال : " فإذا أحببته كنت معه … " ، الحديث . أسمعه كلامه ، وليس هناك الحروف والأصوات ، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية ، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس ، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء ، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة ، لا من حيث الجمع والتفرقة . انتهى كلامه . واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا ، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية ، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة ، كلام القدرة يبرز من غير اختبار ، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه ، غائبًا عن اختياره ، وكلام الحكمة معه ضرب من الاختبار ، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية ، ومن الجمادات على وجه الكرامة ، وكله بحرف وصوت . نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية ، قد يكون بلا حرف ولا صوت ، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف ، فقوله : بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية … الخ . إن أراد به التجليات الباطنية فمسلَّم ، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يُسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور في ذلك ، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت . وليس كذلك . وقوله : وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء الخ ، معناه : لم يبق في ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شيء . قلت : لكنهم يثبتونها حكمةً ، ويمحونها قدرةً ومشاهدة ، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة ، كما هو معلوم . والله تعالى أعلم .