Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 42, Ayat: 51-53)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وما كان لبشرٍ } أي : ما صحّ لأحد من البشر { أن يُكلمه اللهُ } بوجه من الوجوه { إِلا وَحْياً } إلهاماً ، كقوله عليه الصلاة السلام : " ألقي في رُوعي " أو : رؤيا في المنام لقوله صلى الله عليه وسلم : " رؤيا الأنبياء وحي " كأمر إبراهيم عليه السلام بذبح الولد ، وكما أوحي إلى أم موسى ، رُوي عن مجاهد : " أَوحى اللهُ الزبورَ إلى داود عليه السلام في صدره " . { أو من وراءِ حجابٍ } بأن يسمع كلاماً من الله ، من غير رؤية السامع مَن يكلمه ، كما سمع موسى عليه السلام من الشجرة ، ومن الفضاء في جبل الطور ، وليس المراد به حجاب الله تعالى على عبده حساً إذ لا حجاب بينه وبين خلقه حساً ، وإنما المراد : المنع من رؤية الذات بلا واسطة . { أو يُرسلَ رسولاً } أو : بأن يرسل مَلَكاً { فيُوحيَ } الملَكُ { بإِذنه } بإذن الله تعالى وتيسيره { ما يشاءُ } من الوحي . وهذا هو الذي يجري بينه تعالى وبين أنبيائه في عامة الأوقات . روي : أن اليهود قالت للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا تكلم الله ، وتنظر إليه إن كنت نبياً ، كما كلمة موسى ، ونظر إليه ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : " لم ينظر موسى إلى الله تعالى " فنزلت . والذي عليه جمهور المحققين أن نبينا عليه الصلاة والسلام رأى ربه ليلة المعراج ، وكلّمه مشافهة ، وعليه حمل البيضاوي قوله تعالى : { إِلا وحياً } لأن الوحي هو : الكلام الخفي ، المدرك بسرعة ، أعم من أن يكون مشافهة أو غيرها . قال الطيبي : وإذا حمل الوحي على ما قاله البيضاوي ، وأنه المشافهة ، المعنى بقوله : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى } [ النجم : 10 ] اتجه ترتيب الآية ، وأنه ذكر أولاً الكلام بلا واسطة ، بل مشافهة ، وهو حال نبينا صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر ما كان بغير واسطة ، ولكن لا بمشافهة ، بل من وراء الغيب ، ثم ذكر الكلام بواسطة الإرسال . هـ . بالمعنى . { إِنه عَلِيٌّ } متعال عن صفات المخلوقين ، لا يتأتى جريان المفاوضة بينه تعالى وبينهم إلا بأحد الوجوه المذكورة ، ولا تكون المكافحة إلا بالغيبة عن حس البشرية ، { حيكمٌ } يُجري أفعاله على سنن الحكمة ، فيكلم تارة بواسطة ، وأخرى بدونها ، مكافحة ، أو غيرها . { وكذلك } أي : ومثل ذلك الإيحاء البديع كما وصفنا { أوحينا إِليك روحاً من أمرنا } وهو القرآن ، الذي هو للقلوب بمنزلة الروح للأبدان ، فحييت الحياة الأبدية . { ما كنت تدري } قبل الوحي { ما الكتابُ } أيّ شيء هو ، { ولا الإِيمانُ } بما في تضاعيف الكتاب من الأمور التي لا تهتدي إليها العقول ، لا الإيمان بما يستقل به العقل والنظر ، فإنَّ دِرايتَه صلى الله عليه وسلم مما لا ريب فيه قطعاً . قال القشيري : ما كنت تدري قبل هذا ما القرآن ولا الإيمان بتفصيل هذه الشرائع . وقال الشيخ البكري : أي الإيمان على الوجه الأخص ، المرتب على تنزلات الآيات ، وتلاوة البينات ، واستكشاف وجه الحق بأنوار العلم المنزل على قلبه من حضرة ربه . هـ . وقال ابن المنير : الإيمان برسالة نفسه ، وهو المنفي عنه قبل الوحي لأن حقيقة الإيمان : التصديق بالله وبرسوله . هـ . { ولكن جعلناه } أي : الروح الذي أوحيناه إليك { نوراً نهدي به مَن نشاء } هدايته { من عبادنا } ، وهو الذي يصرف اختياره نحو الاهتداء به . { وإِنك لتهدي } بذلك النور مَن نشاء هدايته ، أو : وإنك لتدعو { إِلى صراط مستقيم } هو الإسلام وسائر الشرائع والأحكام ، { صراطِ الله } بدل من الأول ، وإضافته إلى الاسم الجليل ، ثم وصفه بقوله تعالى : { الذي له ما في السماوات وما في الأرض } لتفخيم شأنه ، وتقرير استقامته ، وتأكيد وجوب سلوكه فإن كون جميع ما فيهما من الموجودات له تعالى ، خلقاً ، وملكاً ، وتصرفاً ، مما يُوجب ذلك أتم الإيجاب . { ألا إِلى الله تصير الأمورُ } أي : الأمور قاطبة راجعة إليه ، لا إلى غيره ، فيتصرّف فيها على وِفق حكمته ومشيئته . الإشارة : قد تحصل للأولياء المكالمة مع الحق تعالى بواسطة تجلياته ، فيسمعون خطابه تعالى من البشر والحجر ، أو بلا واسطة ، بحيث يسمعون الكلام من الفضاء ، وإليه أشار الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه بقوله : " وهب لنا مشاهدةً تصحبها مكالمة " ، ولا تكون هذه الحالة إلا للأكابر من أهل الفناء والبقاء . وأما مكالمة الحق من النور الأقدس ، بلا واسطة ، فهو خاص نبينا صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء . قال شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي رضي الله عنه : والذي عندي أن التكلم على المكافحة والمشابهة إنما يكون بالانخلاع عن البشرية ، ومحوها ، والبقاء بصفات الربوبية ، وذلك إشارة إلى أنه عليه السلام إنما شُوفَه وكلّم بعد العروج عن أرض الطبيعة إلى سماء الحقيقة . وكان بالأرض يُكلم بالواسطة ، وموسى كُلّم بغير واسطة ، ولكن بغير مشافهة ، ولذلك كان كلامه بالأرض ، ولم يعط الرؤية لأنها لا تكون في الأرض ، أي في أرض البشرية ، بل لا بد من الغيبة عنها . وذهب الورتجبي إلى أن الحصْر فيما ذكر في الآية إنما هو لمَن كان في حجاب البشرية ، فأما مَن خرج عنها إلى الغيب ، وألبس نور القرب وكحّل عينه بنوره تعالى ، ومدّ سمعه بقوة الربوبية ، فإنه يُخاطب كفاحاً وعياناً . ونقل مثل ذلك عن الواسطي ، فراجع بسطه فيه . والفرق بينه وبين ما ذكرنا : أن خطاب المكافحة عنده خارجة من الثلاثة المذكورة في الآية ، وعندنا داخلة في قوله : { إِلا وحياً } لأنه أعم من المشافهة ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وإِنك لَتَهدي إِلى صراط مستقيم } أي : طريق الوصول والترقي أبداً ، فيؤخذ منه : أن وساطته صلى الله عليه وسلم لا تنقطع عن المريد أبداً لأن الترقي يكون باستعمال أدب العبودية ، وهي مأخوذة عنه صلى الله عليه وسلم ، وكما أن الترقي لا ينقطع فالأدب الذي هو سلوك طريقته صلى الله عليه وسلم لا ينقطع . والله تعالى أعلم ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وسلم .