Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 45, Ayat: 26-32)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { ويوم } : منصوب بيَخْسَر ، و " يومئذٍ " بدل منه ، و " كل أُمةٍ تُدْعَى " : مبتدأ وخبر ، ومن نصب فبدل من " كل أمة " ، { والساعة لا ريب فيها } مَن رفعها فمبتدأ ، ومَن نصبها فعطف على { وعد الله } . يقول الحق جلّ جلاله : { قل الله يُحييكم } في الدنيا { ثم يُميتكم } عند انقضاء أعماركم ، لا كما تزعمون من أنكم تحيون وتموتون بحكم الدهر ، { ثم يجمعكم } بعد الموت { إِلى يوم القيامة } للجزاء ، { لا ريبَ فيه } أي : في جمعكم فإنّ مَن قدر على البدء قدر على الإعادة ، والحكمة اقتضت الجمع للجزاء لا محالة ، وتأخيره ليوم معلوم ، والردّ لآبائهم كما اقترحوا ، حيث كان مزاحماً للحكمة التشريعية ، امتنع إيقاعه لرفع الإيمان بالغيب حينئذ ، { ولكنَّ أكثرَ الناس لا يعلمون } قدرة الله على البعث ، وحكمة إمهاله ، لإعراضهم عن التفكُّر بالانهماك في الغفلة ، وهو استدراك من قوله : { لا ريب } إما من تمام الكلام المأمور به ، أو مستأنف من جهته تعالى ، تحقيقاً للحق ، وتنبيهاً على أن ارتيابهم إنما هو لجهلهم وتقصيرهم في التفكُّر والنظر ، لا لأن فيه شائبة ريبٍ ما . { ولله ملكُ السماوات والأرض } أي : له التصرُّف فيما وفيما بينهما ، وهو بيان لاختصاص الملك المطلق بالله ، إثر بيان تصرفه تعالى في الناس بالإحياء والإماتة ، والبعث والجمع والجزاء ، وكأنه دليل لِما قبله ، { ويوم تقوم الساعةُ يومئذ يَخْسَرُ المبطلون } الداخلون في الباطل ، وهو الكفر ، { وترى كُلَّ أمةٍ } من الأمم المجموعة { جاثيةً } باركة على الركب ، مستوفزة من هول ذلك اليوم ، يقال : جثا فلان يجثو : إذا جلس على ركبتيه ، قال سلمان رضي الله عنه : في القيامة ساعة هي عشر سنين ، يخرّ الناسُ فيها جثاةً على ركبهم ، حتى إن إبراهيم ينادي : نفسي نفسي . هـ . ورُوي : أن جهنم حين يؤمر بها أن تُساق إلى الموقف ، تنفلت من أيدي الزبانية ، حتى تهم أن تأتي على أهل الموقف جميعاً ، وتزفر زفرة تذهب بحاسة الآذان ، فيجثو الكل على الركب ، حتى المرسلين ، وكل واحد يقول : نفسي نفسي ، لا أسألك اليوم غيرها ، ونبينا عليه الصلاة والسلام يقول : " أمتي أمتي " نقله الغزالي ، وعن ابن عباس : جاثية ، مجتمعة ، وقيل : جماعات ، من : الجثوة ، وهي الجماعة . { كُلُّ أمةٍ تُدْعَى إِلى كتابها } صحيفة أعمالها ، والمراد الجنس ، أي : صحائف أعمالها ، { اليوم تُجْزَون ما كنتم تعملون } في الدنيا ، ثم يُقال لهم : { هذا كِتَابُنا } أضيف الكتاب إليهم أولاً لملابسته إياهم ، لأن أعمالهم مثبتة فيه ، وإلى الله ثانياً لأنه مالكه ، والآمِرُ للملائكة بكَتْبِه ، وأضيف لنون العظمة تفخيماً لشأنه ، وتهويلاً لأمره ، { ينطق عليكم بالحق } يشهد عليكم ملتبساً بالحق ، من غير زيادة ولا نقصان ، { إِنا كنا نَسْتنسخ } أي : نستكتب ونطلب نسخ { ما كنتم تعملون } في الدنيا ، من الأعمال ، حسنة أو سيئة ، وقال ابن عزيز : نستنسخ : نثبت ، ويقال : نستنسخ : نأخذ نسخته ، وذلك أن الملكين يرفعان عمل الإنسان ، صغيره وكبيره ، فيثبت الله منه ما كان له ثواب أو عقاب ، ويطرح منه اللغو ، وروي عن ابن عباس وغيره حديثاً : " أن الله يأمر بعرض أعمال العباد كل يوم خميس ، فينقل من الصحف التي ترفع الحفظة ، كل ما هو مُعَدّ أن يكون له ثواب وعقاب ، ويلقى الباقي " ، فهذا هو النسخ من أصل . وقيل : المراد بكتابنا : اللوح المحفوظ . قال صلى الله عليه وسلم : " أول ما خلق الله القلم من نور مسيرة خمسمائة عام ، واللوح من نور مسيرة خمسمائة عام ، فقال للقلم : اجر : فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة من عمل ، برها وفاجرها ، ورطبها ويابسها " ثم قرأ : { هذا كتابنا ينطق … } الآية ، فيُروى " أن الملائكة تصعد كل يوم إلى الملك الموكل باللوح ، فيقولون : أعطنا ما يعمل صاحبنا اليوم ، فينسخُ من اللوح عمله ذلك اليوم ، ويعطيه إياهم ، فإذا انقضى أجله ، قال لهم : لا نجد لصاحبكم عملاً بقي له ، فيعلمون أنه انقضى أجله " . ثم فصّل أحوال أهل الموقف ، فقال : { فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيُدخلهم ربُّهم في رحمته } ، أي : جنته { ذلك هو الفوزُ المبين } الظاهر ، الذي لا فوز وراءه ، { وأما الذين كفروا } فيُقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ : { أفلم تكن آياتي تُتلى عليكم } أي : ألم تكن تأتيكم رسلي فلم تكن آياتي تتلى عليكم ، فحذف المعطوف عليه ، ثقةً ، بقرينة الكلام ، { فاستكبرتم } عن الإيمان بها ، { وكنتم قوماً مجرمين } أي : قوماً عادتكم الإجرام . { وإِذا قيل إِنَّ وعد الله } أي : وكنتم إذا قيل لكم : إن وعد الله بالجزاء { حقٌّ والساعةُ لا ريبَ فيها } أي : في وقوعها { قلتم ما ندري ما الساعةُ } أيّ شيء هي الساعة ، استهزاء بها ، { إِن نظنُّ إِلا ظناً } أصله : نظن ظناً ، ومعناه : إثبات الظن ، فحسب ، فأدخل حرف النفي والاستثناء ليفيد إثبات الظن مع نفس ما سواه . وقال المبرد : أصله : إن نحن إلا نَظُن ظناً ، وإنما أوَّله لأنه لا يصح التفريع في المصدر المؤكد ، لعدم حصول الفائدة ، إذ لا معنى لقولك : لا نضرب إلا ضرباً ، وجوابه : إن المصدر نوعي لا مؤكد ، أي : ظناً حقيراً ضعيفاً . وفي الآية اللف والنشر المعكوس . فقوله : { قلتم ما ندري ما الساعة } راجع لقوله : { والساعة لا ريب فيها } ، وقوله : { إن نظن إلا ظناً } راجع لقوله : { إن وعد الله حق } ، وكذا قوله : { وما نحن بمستيقنين } أي : لا يقين عندنا ، وهو راجع لقوله { إن وعد الله حق } . قاله ابن عرفة . ولعل هؤلاء غير القائلين : { ما هي إلا حياتنا الدنيا } والله أعلم . الإشارة : قل الله يُحييكم الحياةَ الفانية ، ثم يُميتكم عن حظوظكم ، وعن شهود وجودكم ، ثم يجمعكم به إلى يوم القيامة ، لا يعزلكم عن رؤيته أبداً ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون أن هذا يقع في الدنيا ، مع أن المُلك لله يتصرف فيه كيف شاء ، يُوصِّل مَن أراد ، ويُبعد مَن شاء . ويوم تقوم الساعة يخسر الباطلون والمبطلون ، ويفوز المجتهدون والواصلون . وترى كُلَّ أمة جاثية من هيبة المتجلِّي باسمه القهّار ، وهذذ القهرية - نعم - لا ينجو منها خاص ولا عام لأن الطبع البشري يثبت عند صدمات الجلال . وقوله تعالى : { كل أمة تُدعى إلى كتابها } هو أيضاً عام ، فيستبشر المجتهدون ، ويحزن الباطلون ، ولا يظلم ربك أحداً ، فاليوم يوم عمل ، وغداً يوم جزاء ، فأهل الإيقان يفوزون بغاية النعيم والرضوان ، وأهل الشك يخلدون في الخسران ، فيظهر لهم ما لم يكونوا يحتسبون ، كما قال : { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } .