Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 46, Ayat: 20-20)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { ويوم } : منصوب بقول مقدّر قبل { أذهبتم } أي : يقال هم : أذهبتم طيباتكم يوم عرضكم ، أو باذكر ، وهو أحسن . يقول الحق جلّ جلاله : { و } اذكر { يومَ يُعْرَضُ الذين كفروا على النار } أي : يُعذّبون بها ، من قولهم : عُرض بنو فلان على السيف ، إذا قُتلوا به ، وقيل المراد : عرض النار عليهم ، من قولهم : عرضت الناقة على الحوض ، يريدون : عرض الحوض عليها ، فقلبوا . وإذا عُرضوا عليها يُقال لهم : { أَذْهبتُمْ طيباتِكُم } أي : أخذتم ما كُتب لكم من حظوظ الدنيا ولذائذها { في حياتكم الدنيا } فقد قدمتم حظكم من النعيم في الدر الفانية قال ابن عرفة : قيل : المراد بالطيبات المستلذات ، والظاهر : أن المراد أسباب المستلذات ، أي : الأسباب التي تتوصلون بها إلى نيل المستلذات في الدار الآخرة ، إذ نسيتموها في الدنيا ، أي : تركتموها ولم تفعلوها . هـ . قلت : يُبعده قوله : { واستمتعتم بها } أي : فلم يُبق ذلك لكم شيئاً منها ، بل قدمتم جنتكم في دنياكم . وعن عمر رضي الله عنه : لو شئتُ كنتُ أطيبَكم طعاماً ، وألينكم لباساً ، ولكني أستبقي طيباتي . ولما قَدِم الشامَ صُنعَ له طعامٌ لم يُر قبله مثله ، قال : هذا لنا ، فما للفقراء المسلمين الذين ماتوا وهم لا يشبعون خبز الشعير ؟ قال خالد ، لهم الجنة ، فاغروْرقتْ عينا عمر وبكى ، وقال : لئن كان حظنا من الحطام ، وذهبوا بالجنة ، لقد باينونا بوناً بعيداً ، وقال أبو هريرة رضي الله عنه : إنما كان طعامنا مع النبي صلى الله عليه وسلم الماء والتمر ، والله ما كان نرى سمراءَكم هذه ، وقال أبو موسى : ما كان لباسنا مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا الصوف . ورُوي : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم دخل على أهل الصُّفة ، وهم يرقعون ثيابهم بالأدَم ، ما يجدون لها رقعاً ، فقال : " أنتم اليوم خيرٌ أم يومَ يغدوا أحدكم في حُلة ، ويروح في أخرى ، ويُغدا عليه بجفنة ويُراح بأخرى ، ويُسترُ بيته كما تُستر الكعبة " ؟ قالوا : نحن يومئذ خير ، فقال لهم : " بل أنتم اليوم خير " . وقال عمرو بن العاص : كنت أتغدّى عند عمر الخبزَ والزيتَ ، والخبز والخل ، والخبز واللبن ، والخبز والقديد ، وأجلّ ذلك اللحم الغريض ، وكان يقول : لا تنخلوا الدقيق ، فإنه كله طعامٌ ، ثم قال عمر رضي الله عنه : والله الذي لا إله إلا هو ، لولا أني أخاف أن تنقص حسناتي يوم القيامة لشاركتهم في العيش ! ولكني سمعتُ اللّهَ يقول لقوم : { أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها } . هـ . { فاليوم تُجزونَ عذابَ الهُونِ } أي : الهوان ، وقرئ به ، { بما كنتم } في الدنيا { تستكبرون في الأرض بغير الحق } بغير استحقاق لذلك ، { وبما كنتم تَفْسُقون } وتخرجون عن طاعة الله عزّ وجل ، أي : بسبب استكباركم وفسقكم . الإشارة : ما زالت الأكابر من الأولياء تتنكب الحظوظ والشهوات ، مجاهدةً لنفوسهم ، وتصفيةً لقلوبهم ، فإنَّ تَتَبُّعَ الشهوات يُقَسي القلب ، ويكسِف نور العقل ، كما قال الشاعر : @ إنَارَةُ العقل مَكْسُوفٌ بطَوْع هَوىً وعَقْلُ عَاصِي الهَوَى يَزْدَادُ تنْوِيرا @@ هذا في حال سيرهم ، فإذا تحقق وصولهم فلا كلام عليهم لأنهم يأخذون من الله ، ويتصرفون به في أمورهم كلها ، فلا حرج عليهم في نيل ما أنعم الله به عليهم ، حيث أمِنوا ضرره ، ومن ذلك : ما رُوي عن إبراهيم بن أدهم ، أنه أصلح ذات يوم طعاماً كثيراً ، ودعا نفراً يسيراً ، منهم الأوزاعي والثوري ، فقال له الثوري : أما تخاف أن يكون هذا إسرافاً ؟ فقال : ليس في الطعام إسراف ، إنما الإسراف في الثياب والأثاث ، ودفع أيضاً إلى بعض إخوانه دراهم ، فقال : خذ لنا بهذه زُبداً وعسلاً وخبزاً حُوَّاري ، فقال : يا أبا إسحاق هذا كله ؟ قال : ويحك إذا وجدنا أَكَلْنا أكلَ الرجال ، وإذا عُدمنا صبرنا صبر الرجال ، وإن معروفاً الكرخي كان يُهدي له طيبات الطعام ، فيأكل ، فيقال له : إن أخاك بِشْراً كان كلا يأكل من هذا ، فيقول : أخي بِشْر قبضه الورعْ ، وأنا بسطتني المعرفة ، وإنما أنا شضيف في دار مولاي ، إذا أطعمني أكلت ، وإذا جوّعني صبرت ، ما لي وللاعتراض والتمييز . هـ . والحاصل : أن الناس أقسام ثلاثة : عوام ، لا همة لهم في السير ، وإنما قنعوا أن يكونوا من عامة أهل اليمين . فهؤلاء يأخذون كل ما أباحته الشريعة ، إذ لا سير لهم حتى يخافوا من تخلُّفهم ، وخواص ، نهضت همتُهم إلى الله ، وراموا الوصول إليه ، وهم في السير لم يتحقق وصولهم ، أو من العُبَّاد والزهّاد ، يخافون إن تناولوا المستلذات تفتَّرت عزائمهم ، فهؤلاء يتأكد في حقهم ترك الحظوظ والشهوات ، والقسم الثالث : خواص الخواص ، قد تحقق وصولهم ، ورسخت أقدامهم في المعرفة ، فهؤلاء لا كلام معهم ، ولا ميزان عليهم . قال في الإحياء ، بعد كلام : وأكل الشهوات لا يُسلَّم إلا لمَن نظر من مشكاة الولاية والنبوة ، فيكون بينه وبين الله علامة في استرساله وانقباضه ، ولا يكون ذلك إلا بعد خروج النفس من طاعة الهوى والعادة بالكلية ، حتى يكون أكلُه إذا أكل بنية ، كما يكون إمساكه بنية ، فيكون عاملاً له في إفطاره وإمساكه . ثم قال : وينبغي أن يتعلّم الحزم من عُمر ، فإنه كان يرى النبيّ صلى الله عليه وسلم يُحب العسل ويأكله ، ثم لم يقس نفسه عليه ، بل لمّا عُرض عليه ماء مبرّد بالعسل جعل يُدير الإناء في كفه ، ويقول : أَشربُها فتذهب حلاوتها وتبقى تباعتُها ، اعزلوا عني حسابها ، وتركها رضي الله عنه . ثم ذكر وبال من تمتع بدنياه ، وأعرض عن أخراه ، فقال : { وَٱذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنذَرَ قَوْمَهُ } .