Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 5, Ayat: 72-76)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح ابن مريم } ، لِما رأوا على يديه من الخوارق ، { وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم } المعنى : لقد كفر من اتخذ عيسى إلهًا مع أنه كان يتبرأ من هذا الاعتقاد ، ويقول لبني إسرائيل : اعبدوا الله خالقي وخالقكم . والمشهور في الأخبار ، أن النصارى هم الذين اعتقدوا هذا الاعتقاد دون بني إسرائيل ، نعم ، أصل دخول هذه الشبهة على النصارى من يهودي يقال له : بولس ، حسدًا منه ، وذلك أنه دخل في دينهم ، وفرق أموالهم ، وتأهب للتعبد معهم ، ثم سار إلى بيت المقدس وقطّع نفسه تقربًا عند قبري مريم وعيسى عليهما السلام في زعمهم ، وكان معه رجلان اسمهما : يعقوب وناسور ، فأخذ يعلمهما ذلك الفساد ويقول لهما : عيسى هو الله أو ابن الله ، فلما قطع نفسه صار الرجلان يُفشيان ذلك عنه ، فشاع مذهب الرجلين ، وكان منهما الطائفة اليعقوبية والناسورية . ثم هددهم على الشرك فقال ، أي : عيسى : { إنه من يشرك بالله } في عبادته ، أو فيما يختص به من الصفات والأفعال ، { فقد حرم الله عليه الجنة } أي : يمنع من دخولها لأنها دار الموحدين ، { ومأواه النار } أي : محله النار . لأنها معدة للمشركين ، { وما للظالمين من أنصار } أي : وما لهم أحد ينصرهم من النار . ووضع المظهر موضع المضمر ، تسجيلاً على أنهم ظلموا بالإشراك ، وعدلوا عن طريق الحق ، وهو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى عليه السلام ، أو من كلام الله تعالى . ثم ذكر تعالى صنفًا آخر منهم ، فقال : { لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة } أي : أحد ثلاثة ، عيسى وأمه وهو ثالثهم ، أو أحد الأقانيم الثلاثة ، الأب والابن وروح القدس ، يريدون بالأب الذات ، وبالابن العلم ، وبروح القدس الحياة ، لكن في إطلاق هذا اللفظ إيهام وإيقاع للغير في الكفر ، وهذه المقالةـ أعني التثليث ، هي قوله النسطورية والملكانية ، وما سبق في قوله : { إن الله هو المسيح } قول اليعقوبية ، القائلة بالاتحاد ، وكلهم ضالون مضلون ، { وما من إله إلا إله واحد } في ذاته وصفاته وأفعاله ، لا شريك له في ألوهيته ، متصلاً ولا منفصلاً ، { وإن لم ينتهوا عما يقولون } ، ولم يوحدوا { ليمسن الذين كفروا منهم عذاب أليم } أي : ليمس الذين بقوا منهم على الكفر ولم يتوبوا ، عذاب موجع . { أفلا يتوبون إلى الله ويستغفرونه } أي : أفلا يرجعون عن تلك العقائد الزائفة والأقوال الفاسدة ، ويستغفرونه بالتوحيد والتوبة عن الاتحاد والحلول ، فإن تابوا غفر الله لهم ، { والله غفور رحيم } . وهذا الاستفهام : تعجب من إصرارهم ، مع كون التوبة مقبولة منهم . ثم رد عليهم بقوله : { ما المسيح ابن مريم إلا رسول } بشر { قد خلت من قبله الرسل } ، وخصه الله بآيات ، كما خصهم بها ، فإن كان قد أحيا الله الموتى على يديه ، فقد أحيا العصى ، وجعلها حية تسعى على يد موسى ، بل هو أعجب ، وإن كان قد خلقه الله من غير أب ، فقد خلق آدم من غير أب وأم ، وهو أغرب ، { وأمه صديقة } فقط ، كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق أو التصديق ، { كانا يأكلان الطعام } ويفتقران إليه افتقار الحيوانات ، قال البيضاوي : بيّن أولاً أقصى مالهما من الكمال ، ودل أنه لا يوجب لهما ألوهية لأن كثيرًا من الناس يشاركهما في مثله ، ثم نبه على نقصهما ، وذكر ما ينافي الربوبية ويقتضي أن يكون من عداد المركبات الكائنة الفاسدة ، أي : القابلة للفساد ، ثم عجب ممن يدعي الربوبية لهما مع أمثال هذه الأدلة الظاهرة ، فقال : { انظر كيف نبين لهم الآيات ثم انظر أنا يؤفكون } أي : كيف يُصرفون عن استماع الحق وتأمله ، و { ثم } للتفاوت بين العجبين ، أي : أن بياننا للآيات عجب ، وإعراضهم عنها أعجب . هـ . ثم أبطل عبادتهم لعيسى عليه السلام فقال : { قل أتعبدون من دون الله ما لا يملك لكم ضرًّا ولا نفعًا } بل هو عاجز عن صرفه عن نفسه وجلب الخير لها ، فكيف يقدر أن يدفعه عن غيره ؟ وعبَّر عنه بما ، دون { من } إشارة إلى أنه من جنس ما لا يعقل ، وما كان مشاركًا في الحقيقة لجنس ما لا يعقل ، يكون معزولاً عن الألوهية ، وإنما قدّم الضر لأن التحرز منه أهم من تحري النفع ، ثم هددهم بقوله : { والله هو السميع العليم } بالأقوال والعقائد ، فيجازي عليهما ، إن خيرًا فخير ، وإن شرًا فشر . والله تعالى أعلم . الإشارة : ينبغي للعبد أن يصفي مشرب توحيده ، ويعتني بتربية يقينه ، بصحبة أهل اليقين ، وهم أهل التوحيد الخاص ، فيترقى من توحيد الأفعال إلى توحيد الصفات ، ومن توحيد الصفات إلى توحيدات الذات ، فنهاية توحيد الصالحين والعلماء المجتهدين تحقيق توحيد الأفعال ، وهو ألاَّ يرى فاعلاً إلا الله ، لا فاعل سواه ، وثمرة هذا التوحيد : الاعتماد على الله ، والثقة بالله ، وسقوط خوف الخلق من قلبه ، لأنه يراهم كالآلات ، والقدرة تحركهم ، ليس بيدهم نفع ولا ضرر ، عاجزون عن أنفسهم فكيف عن غيرهم ؟ ونهاية توحيد العباد والزهاد والناسكين المنقطعين إلى الله تعالى توحيد الصفات ، فلا يرون قادرًا ولا مريدًا ولا عالمًا ولا حيًّا ولا سميعًا ولا بصيرًا ولا متكلمًا إلا الله ، قد انتفت عنه صفات الحدث وبقيت صفات القدم . وثمرة هذا التوحيد : الانحياش من الخلق والتأنس بالملك الحق ، وحلاوة الطاعات ولذيذ المناجات . ونهاية توحيد الواصلين من العارفين والمريدين السائرين : توحيد الذات فلا يشهدون إلا الله ، ولا يرون معه سواه . قال بعضهم : لو كلفت أن أرى غيره لم أستطع ، فإنه لا غير معه حتى أشهده . وقال شاعرهم : @ مُذ عَرَفتُ الإله لَم أرَ غَيرًا وكَذَا الغَيرُ عِندَنَا مَمنُوعُ مُذ تَجَمَّعتُ مَا خَشيتُ افتِراقاً فَأنَا اليَومَ واصِلٌ مجمُوعُ @@ وقال في التنوير : أبى المحقّقون أن يشهدوا مع الله سواه لما حققهم به من شهود الأحدية وإحاطة القيومية . هـ . وفي الحكم : " الأكوان ثابتة بإثباته ، ممحوة بأحدية ذاته " . وهؤلاء هم الصديقون المقربون . نفعنا الله بذكرهم ، وخرطنا في سلكهم . آمين . ثم نهى أهل الكتاب عن الغلو في عيسى ، فقال : { قُلْ يَـٰأَهْلَ ٱلْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ } .